الذي كان يدخره القدر لمصير الخلافة الأموية. ذلك أن محمد بن أبي عامر، الذي أخذ يبزغ نجمه منذ أواخر أيام الحكم، ما كاد يلي منصب الوزارة، حتى أخذ يستجمع أزمة السلطة في يده تباعاً، ويحطم كل معارضة لسلطانه، وانتهى الأمر بأن فرض ابن أبي عامر نفسه حاكماً مطلقاً للأندلس، وأنشأ مدينة الزاهرة، لتكون له قاعدة جديدة للحكم، واتخذ سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور (٣٧١ هـ - ٩٨١ م)، وبالرغم من أنه لم يتعرض بشىء للخلافة الأموية أو رسومها، فإن الخلافة لم تكن في ظل حكمه سوى شبح باهت، واسم بلا مسمى. وهكذا قامت الدولة العامرية واستمرت في ظل المنصور، ثم ولده عبد الملك المظفر، فأخيه عبد الرحمن زهاء ثلاثين عاماً، ثم انتهت بمصرع عبد الرحمن المنصور في رجب سنة ٣٩٩ هـ (١٠٠٩ م).
وهنا استعادت الخلافة الأموية سلطانها بقيام محمد بن هشام الملقب بالمهدي، وتربعه في كرسي الخلافة مكان الخليفة هشام المؤيد، وانتهى بذلك عهد السلطة الثنائية، سلطة الخلافة الأموية الإسمية، وسلطة بني عامر الفعلية، ولكن عودة الخلافة الأموية على هذا النحو لم يكن سوى بداية مأساة مروعة، استمرت زهاء أربعين عاماً، اضطرمت الأندلس فيها بالفتن المدمرة، وغدت الخلافة الإسمية، والسلطة الفعلية، غنماً متداولا، بين بني أمية، والفتيان العامريين، والبربر، وبني حمود، وانتحل بنو حمود ألقاب الخلافة، وقامت في وقت واحد بالأندلس أكثر من خلافة في قرطبة، ومالقة، وإشبيلية، وغدت قرطبة والأندلس كلها مسرحاً لمعارك وحروب أهلية متوالية، ودمرت خلال ذلك مدينة الزهراء الخلافية، وعدة من أحياء قرطبة، وسادت الفوضى كل جنبات الأندلس، واستمرت هذه المحنة زهاء أربعين عاماً، ثم تمخضت في النهاية عن مأساة جديدة.
وهي تمزق الأندلس إلى ولايات ومدن عديدة مستقلة، يحكم كل منها زعيم أو أمير مستقل، وبدأ بذلك عهد الطوائف.
تلك خلاصة وجيزة للأوضاع النظامية، وأنواع الحكم المتوالية، التي عاشت في ظلها الأمة الأندلسية زهاء ثلاثة قرون منذ فتح الأندلس في سنة ٩٢ هـ (٧١١ م) حتى قيام دول الطوائف، في الربع الثاني من القرن الخامس الهجري.