الرماح إلى السيوف، والطعن إلى الضرب، وكروا في حومة المنايا، كرّ من يحمي حليله، ويخشى بعد ساعة أن تسبى ذريته، فلم ير المسلمون حرباً مثلها، ولا شهدوا يوم وغى أطول من يومهم ذاك. ونصر الله تعالى يهون عليهم ما هم فيه، حتى فضوا جموع المشركين (لوحة ١٤٣ أ)، وزلزلوا ردؤهم التي كانت أكاليل الجبال، وردم الشعاب، وضمهم إلى معسكرهم، وأثارت سنابك الخيل من القتام، ما غيب من كان في القلب عمن يليه من يمين الحرب ويسارها.
وكان محمد بن هاشم في وقدتها حاثاً سعيره قد طال به مدامها، واستدارت حوله رحامها، فكبا به فرسه، ولم يعلم أحد بمصرعه، فصار في أيدي الخنازير أسيراً، فاستشفوا به الحياة. بعد اليأس منها، فجالدوا بنفوس قد عاودتها رمقها، وانحاز المسلمون إلى معسكرهم، قد قتلوا من أعلام المشركين وقوامسهم وأهل البأس من فرسان الحرب، ومن صبر لوقع السيف، فكانت مصيبتهم بمن قتل منهم عظيمة، فلما أصبح أمير المؤمنين لمحلته، أمر بحمل من عقر فرسه، وصلة من أغنى في حربه، وتعرض المشركون للحرب تعرض من قد تنخل لعدو قد أصابهم، ونكايته قد فلقت قلوبهم. فلما كان في اليوم الثالث من احتلاله، عهد أمير المؤمنين إلى صاحب العسكر بمصاحبتهم بالحرب، وقد تلاحقت بهم المدود من أقصى بنبلونة وألبة والقلاع، وأهل قشتيلة، إلى مشركي قلمرية، وكل صنف من أصناف العجم معهم، وهتف على المسلمين بالخروج تحت راياتهم، والتأهب للقاء عدوهم، وأغدوا في نهوضهم، ونزل صاحب العسكر، فرتب تعيينهم، فكثف الردوء، وضم إليها الرجال، وألزم القلب بنفسه، وميز فيه خيل الميمنة والميسرة، وقدم إليهم المقاتلة، وأقام بين يديه جملة الخيل عدة، فإذا رأى في جهة من جهات الحرب خللا سده واستدركه، أو فتقاً رتقه، حتى كانت أيدي المسلمين في الماقط عالية، فتلظت الحرب واحتدمت، وكأن المنايا إنما قصدت فيها أعلام الكفرة وقوامسهم، فصرع قومس غرماج، وابن أخي الخنزير ابن فرذلند، وشيخ النصرانية وعميدها ابن دخبر، إلى العدد الجم من فرسانهم، وأهل الصبر منهم، وانجلت الحرب عن هزيمتهم، وانكشاف أجبل قد كانوا علوها، وسدوا بالخيل والرجال ما بينها، وظنوا أن لا غالب لهم، فزلزلوا زلزالا شديداً، وانصرف المسلمون بعد الظفر والسلامة في المنقلب،