فباتوا بأنعم بال، وأسكن حال. فلما ظن أعداء الله أن قد ملوا حربهم، وتجددت لهم مدودهم، رفعوا معسكرهم، وقدموا صلبانهم، وخرجوا بفارسهم وراجلهم فألقوا إلى ما يلي منهم العسكر، سراع خيولهم، فبادر المسلمون إليهم تبادر الأسود الضارة، فغادرو موقفهم، وجالدوا بسيوفهم، حتى انفرج الموقف عن قتل عظيم من عظمائهم، وأعولوا عليه، واستداروا حواليه، وانصرفوا قد أذلهم الله، ووهنهم، وهون عليهم جمعهم، ووفور مددهم، في ضبط المعيشة، وقلة التبسط، ومصابحة الحرب ومماساتها، حتى كأنهم أهل حصن حوصروا فيه، أو فل جيش لا يستطيعون الرجوع إليه. وأقام أمير المؤمنين ومن معه من جيوشه وحشده، وأهل البصاير والحفايظ، وبلغ أمير المؤمنين أقصى أمل من إذلال جميع المشركين، والاحتلال بساحتهم، وانحياز طاغيتهم في أعلى شاهق، يرجو النجاة بنفسه، فأمر بالرحيل وقد ضاعف النظر، والعدو في ضبط ساقة جيشه لما توقع خروج الكفرة في أثره. وأصبح منتقلا، فما أقدم أعداء الله أن ينظروا من الجيش إلا من بعد على رأس جبل، ونهض يطأ بلادهم وطأة متثاقل، حتى انصرف إلى نهر دويرة، واستقبل عمارته من حصن مانكش التي اتصلت بنكاية أهله، فلم يدع في جليقية حصناً إلا هدمه، ولا معاشاً إلا انتسفه، حتى انتهى إلى مدينة روضة، وهي خالية على عروشها، فأقام على هدمها، وهدم حصن دبيلش معها، يومين كانا أطول على أعداء الله من عامين، لما غير فيهما من نعمهم، وهدم من مساكنهم، وقطع من شجرهم. وكان أمير المؤمنين يَرَ التقدم على نهر دويرة إلى شنت إشتيبن وغرماج لنقص الزروع لديه وضيق (١٤٣ ب) العلف بإفساده. فرفع إليه من حضره من أهل مدينة الفرج وحصونها، يشكون ما يلقونه من مشركي وادي أبينه، ومعاقلها، وترددوا عليه ضارعين إليه، أن يجعل ممر الجيش المؤيد على حصونهم وعمارتهم، وذكروا أن ذلك أنفع لهم ولأهل الثغور معهم، من الإيغال في بلد المشركين، ونكاية من لا ينالهم بغارة، ولا ينهض إليهم بقوة، فصرف الجيوش عند ذلك إلى وادي أبينه، فلم يدع فيها حصناً إلا هدم، ولا قرية إلا هدمت، ولا معاشاً إلا استقصى جميعه. فلما صار في آخره ولم يبق موضع يقوم الجيش بالتردد عليه، أمر الأدلاء بالكشف عن أفضل الطرق إلى حصن أنتيشه، وأرفقها بالمسلمين في منصرفهم برازح ظهرهم، وأحوط عليهم في