في تتبع العصبية العربية والقضاء عليها. وقد بلغ هذا الصراع بين السلطة المركزية، وبين المنتزين عليها، ذروته في أواخر القرن الثالث الهجري، إبان اضطرام الفتنة الكبرى، وتفاقم ثورة المولدين والعرب، في عهد الأمير عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن (٢٧٥ - ٣٠٠ هـ)، حينما اندلع لهيب الثورة، في كل ناحية من نواحي الأندلس، وظهر الزعماء العرب والبربر في معظم النواحي، واستقلت معظم الكور والمدن الكبيرة عن قرطبة. وقد استطاع عبد الله أن يخمد الثورة في كثير من النواحي، وأن ينقذ سلطان بني أمية من الخطر الداهم، ثم جاء من بعده عبد الرحمن الناصر، فأتم المهمة، وقضى على جذور الفتنة من أساسها، وعمل على تدعيم سلطانه بكل الوسائل، فاشتد في مطاردة القبائل والأسر العربية ذات البأس والعصبية، وقضى على رياستها وزعامتها المحلية، ومال إلى اصطناع الموالي والصقالبة، وأولاهم النفوذ والثقة، فاستأثروا في عهده بأرفع المناصب في القصر وفي الحكومة والجيش، وكان من جراء ذلك أن انصرفت القبائل العربية عن الولاء له، وكان تخاذلها في نصرته يوم موقعة الخندق الشهيرة (٣٢٧ هـ)، يرجع من وجوه كثيرة، إلى سخط الزعماء العرب لسياسته، في إذلالهم وسحق نفوذهم ومكانتهم.
ولم يحد المنصور بن أبي عامر، حين استولى على السلطان، عن هذه السياسة في تدعيم الحكومة المركزية، وسحق كل سلطة محلية. وبالرغم من أنه ينتمي إلى بيت من أكرم البيوتات العربية، فإنه عمل على سحق العصبية العربية، وعمل في نفس الوقت على سحق عصبية الفتيان الصقالبة، ولم يستبق منهم إلا أقلية مخلصة. وآثر أن يعتمد في الجملة على ولاء البربر، فكان منهم معظم قادة الجيش، وكان منهم خلفاء المنصور وعماله في المغرب. وفضلا عن ذلك فقد كان من جراء نظام الطغيان المطلق الذي فرضه المنصور على الأندلس، قرابة ثلاثين عاماً، أن توارت معظم الزعامات والعناصر النابهة في المجتمع الأندلسي من الميدان، ولكنها لبثت في مكانها وعزلتها، ترقب فرص الظهور والعمل.
ومن جهة أخرى فقد كان هذا النظام المطلق، الذي فرضه المنصور على الأمة الأندلسية، يخفي في ثنياته كثيراً من عوامل الهدم والانتقاض. فقد كانت سائر العناصر التي تعاونت في إقامته وتدعيمه، يتربص بعضها ببعض، ويخشى كل منها على مركزه وسلطانه. وكانت ثمة معارك خفية تجري بين البربر