القصر ليلا مع بعض أعوانه، ولكنه سقط مرة أخرى في يد أبيه الساهر الحذر.
وعندئذ قرر المعتضد قتل ولده، وقتله بنفسه، وأخفى جثته، فلم يقف أحد على أثره، وعذب شركاءه أشنع عذاب، وقطع أطرافهم، ثم أعدمهم، وأعدم كذلك نفراً من حرمه ونسائه، حتى قطع دابر كل من كانت له بولده علاقة أو صلة، وكانت مأساة مروعة، وكان لها في قواعد الأندلس أعمق صدى (١).
وقد أورد لنا ابن بسام في الذخيرة صورة كتاب أمر المعتضد بكتابته عن المأساة إلى رؤساء الأندلس يصف فيه أطوار الحادث ويبرر تصرفه في إزهاق ولده "الخائن الغادر" حسبما يصفه. وقام بإنشاء هذه الرسالة ابن عبد البر كاتب المعتضد، وذلك ارتجالا، بين يدي المعتضد، وبمحضر من الوزراء والكتاب، فجاءت قطعة من البلاغة الرفيعة، وإليك بعض ما ورد فيها:
" إن الغوى اللعين، العاق الشاق، إسماعيل ابنى بالولاد، لا بالوداد، ونجلى بالمناسب لا بالمذاهب، كنت قد ملت بهواى إليه، وقدمته على من هو أسنى منه، وحبك الشىء يعمي ويصم، والهوا يطمس عين الرائي، إذ يلم، فآثرته بأرفع الأسماء والأحوال، ووسعت عليه في خطيرات الذخائر والأموال، وأخضعت له أكابر رقاب الجند ووجوه الرجال، ودربته في مباشرة الحروب، وأجريته على مقارعة الخطوب، ولم يكن مما أحسبه أني إنما أشحذ على نفسي منه الشفرة، وأوفد بالتدريب والتخريج تحت حصى الجمرة، وما كنت خصصته بالإيثار، واستعملته بالمكافحة والقرار، إلا لجزالة كنت أتوسمها فيه، كانت عيني بها قريرة، وشهامة كنت أتوهمها فيه كانت نفسي بها مسرورة، فإذا الجزالة جهالة، والشهامة شرة وكهامة، وقد تفتن الآباء بالأبناء، وينطوي عنهم ما ينطوون عليه من الأسواء، مع أن الآراء قد تنشأ وتحدث، والنفوس قد تطيب وتخبث، بقرين يصلح أو يفسد، وخليط يغوي أو يرشد، كما أن داء العر قد يعدي، كذلك قرين السوء قد يردي، ومن اتخذ الغاوي خديناً، عاد غاوياً ظنيناً، ومن يكن الشيطان له قريناً، فساء قرينا".
ويصف الكتاب بعد ذلك أدوار المؤامرة التي دبرها إسماعيل منذ فراره وعوده،
وعفو والده عنه، ويقول "فإذا به كالحية لا تغنى مداراتها، والعقرب لا تسالم
(١) راجع رواية ابن حيان في دوزي Historia Abbadidarum, V.I.p. ٢٥٦-٢٥٩ وكذلك البيان المغرب ج ٣ ص ٢٤٤ و ٢٤٨ و ٢٤٩.