للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصبا، ولكن لم يكن مثله في الصرامة والقسوة والاستهتار بالدماء، بل كان بالعكس وديعاً، يعف عن الدماء، بعيداً عن قبول السعايات.

ويقول لنا ابن الأبار في وصف المعتمد ما يأتي: " وكان المعتمد من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل مخالفاً لأبيه في القهر والسفك، والأخذ بأدنى سعاية، رد جماعة ممن نفى أبوه، وسكن وما نفر، وأحسن السيرة، وملك فأسجح، إلا أنه كان موالعاً بالخمر، منغمساً في اللذات، عاكفاً على البطالة، مخلداً إلى الراحة، فكان ذلك سبب عطبه، وأصل هلاكه " (١).

وقد خاض المعتمد مثل أبيه، سلسلة طويلة من الحروب والأحداث، وتقلب في غمار الخطوب والجدود، وكان عهده عهد الحسم في تاريخ دول الطوائف، وفي تاريخ الأندلس قاطبة؛ ولكنه لم يشتهر في ميدان الحرب والسياسة، قدر ما اشتهر في ميدان الأدب والشعر، والفروسية، والجود، ومهما كانت وجوه الضعف الشخصية التي كان ينطوي عليها، من عكوف على الشراب، وانغماس في مجالي اللهو والترف، ومهما كانت أخطاؤه السياسية الفادحة، التي ترتبت عليها محنة الأندلس، ثم محنته الخاصة: مهما كان من هذه الصفات القاتمة فإن شخصية المعتمد بن عباد، تبرز لنا من خلال هذه الغمار، ومن الناحية الأخرى، مشرقة وضاءة، تتوجها عبقريته الأدبية والشعرية، وتزينها صفاته الإنسانية الرقيقة وتطبعها محنته المؤلمة، بالرغم من كل أوزاره وأخطائه، بطابع الاستشهاد المؤثر.

وكان المعتمد أثناء حياة أبيه المعتضد، والياً لمدينة شلب، وليها عقب استيلاء بني عباد عليها في سنة ٤٥٥ هـ (١٠٦٣ م)، وكان يعاونه خلال تلك الفترة في إدارة ولاية شلب وزيره أو أمينه أبو بكر بن عمار، الذي تولى وزارته بإشبيلية فيما بعد، واشتهر ذكره، واضطلع له بأخطر المهام السياسية والعسكرية.

وقد تركت حياة المعتمد في شلب، تلك المدينة البرتغالية الجميلة النائية، وهو يومئذ في عنفوان فتوته، يتقلب خلالها في مجالي اللهو والأنس، في نفسه ذكريات لا تمحى، صورها لنا فيما بعد، في بعض قصائده. ومن ذلك قوله مخاطباً وزيره ابن عمار حين وجهه إلى شلب ليتفقد أعمالها:

ألا حب أوطانب بشلب أبا بكر ... وسلهن هل عهد الوصال كما أدري


(١) في الحلة السيراء ج ٢ ص ٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>