في قبضته وتحت رحمته. ولكنه بدأه بالجميل والمودة، وزوده هو ورجاله بالصلات والقِرى، ثم لقيه ووقعت بينهما المناظرة، ومن حول كل رجال دولته، فاشتط زهير، وأغلظ لباديس في القول، وكان كاتبه أحمد بن عباس هو الذي أشار عليه بهذا المسلك، فغادره باديس مقضباً، وقد عول على الحرب، ووافقه قومه شيوخ صنهاجة. وكان باديس قد حشد قواته ورتبها ترتيباً محكماً، وهدم رجاله قنطرة في مؤخرة القوات المهاجمة، قطعاً لخط رجعتها، ورتب من ورائها الكمائن في المفاوز المستترة. كل ذلك وزهير في غروره وعجبه، لا يشعر بما يدبره خصومه. وفي صباح اليوم التالي، فاجأت قوات صنهاجة جيش زهير بهجومها العنيف، وكان يقودها بلقين بن ماكسن أخو باديس، فلقيها زهير بعزم وثبات، ودفع لردها قائده هذيلا الصقلبي في خيرة قواته من الفتيان العامريين والصقالبة، ووقعت بين الفريقين معركة هائلة، صدمت فيها قوات الصقالبة وأسر قائدهم هذيل، وقتل في الحال بأمر باديس، فدب الخلل في قوات زهير، ونكصت على أعقابها، والبربر من ورائها يحصدونها حصداً، وفر زهير فيمن فر من أصحابه إلى شعب الجبال المجاورة، ولكنه أخذ وقتل، ولم يعثر بجثته، وأبيد معظم قواته قتلا وأسراً، وظفر البربر بغنائم هائلة من المال والسلاح والعدة والغلمان والخيام، وأمر باديس بقتل القواد والفرسان من الأسرى، وكان من بين الأسرى عدة من الكتاب في مقدمتهم أحمد بن عباس وابن حزم والد الفيلسوف وأبو عمر الباجي وغيرهم، فأطلق باديس سراحهم جميعاً ما عدا ابن عباس وعدة آخرين من الأسرى، فقد زجهم في الأصفاد إلى المعتقل. وتمت هذه الوقيعة الساحقة على زهير العامري وأصحابه، في آخر يوم من شوال سنة ٤٢٩ هـ (١٠٣٨ م)(١) ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى قتل ابن عباس في معتقله بالقصبة.
قتله باديس بيده تشفياً منه، لتيقنه من أنه هو ناصح زهير والمحرض له على غزوه.
ولم ينقذه ما عرضه لافتداء نفسه من المبالغ الضخمة. ولم تنجح شفاعة الوزير ابن جهور عميد قرطبة لدى باديس للإبقاء على حياته. وكان ابن عباس من أعلام كتاب عصره، وافر المعرفة والأدب، عظيم الوجاهة، والسراوة،
(١) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص ١٦٦ - ١٦٩، والبيان المغرب ج ٣ عى ١٦٩ ١٧٣، والإحاطة ج ١ ص ٥٢٦ - ٥٢٨، والتبيان ص ٣٤ و ٣٥.