للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

راسخة مدنية واجتماعية، تقوم على أصول وثنية أو نصرانية. وكانت النصرانية قد سادت أقطار الدولة الرومانية منذ القرن الرابع. فكان على الخلافة أن تهدم هذا الصرح القديم، وأن تقيم فوق أنقاضه في الأمم المفتوحة، نظماً جديدة تستمد روحها من الإسلام، وأن تذلل النصرانية لصولة الإسلام، سواء بنشر الإسلام بين الشعوب المفتوحة، أو بإخضاعها من الوجهتين المدنية والاجتماعية لنفوذ الإسلام وسلطانه. وكان هذا الصراع بين الإسلام والنصرانية قصير الأمد في الشام ومصر وإفريقية، فلم يمض نصف قرن حتى غمر الإسلام هذه الأمم بسيادته ونفوذه، وقامت فيها مجتمعات إسلامية قوية شاملة، وغاضت الأنظمة والأديان القديمة. ثم دفعت الخلافة فتوحها إلى أقاصى الأناضول من المشرق، وجازت إلى اسبانيا من المغرب. فأما في المشرق فقد حاول الإسلام أن يعبر إلى الغرب عن طريق قسطنطينية، وبعثت الخلافة جيوشها وأساطيلها الزاخرة إلى عاصمة الدولة الشرقية مرتين، الأولى في عهد معاوية بن أبي سفيان في سنة ٤٩هـ (٦٦٩ م) والثانية في عهد سليمان بن عبد الملك سنة ٩٨ هـ (٧١٧ م)، وكانت قوى الخلافة في كل مرة تبدي في محاصرة قسطنطينية، غاية الإصرار والعزم والجلد، ولكنها فشلت في المرتين، وارتدت عن أسوار قسطنطينية منهوكة خائرة، وأخفق مشروع الخلافة في افتتاح الغرب من تلك الناحية، ولقي الإسلام هزيمته الحاسمة في المشرق أمام أسوار بيزنطية، وقامت الدولة الشرقية في وجه الإسلام حصناً منيعا يحمى النصرانية من غزوه وسلطانه. ولكن جيوش الإسلام جازت إلى الغرب عن طريق اسبانيا، وأشرفت من هضاب البرنيه على باقي أمم أوربا النصرانية، ولولا تردد الخلافة وخلاف الزعماء، لاستطاع موسى بن نصير أن ينفذ مشروعه في اختراق أوربا من الغرب إلى المشرق، والوصول إلى دار الخلافة بطريق قسطنطينية، ولكان من المرجح أن تلقى النصرانية يومئذ ضربتها القاضية، وأن يسود الإسلام أمم الشمال كما ساد أمم الجنوب، ولكن الفكرة غاضت في مهدها لتوجس الخلافة وترددها.

على أن الفتوح التي قام بها ولاة الأندلس بعد ذلك في جنوب فرنسا، كانت طورا آخر من أطوار ذلك الصراع بين الإسلام والنصرانية. فقد كانت مملكة الفرنج أعظم ممالك الغرب والشمال يومئذ، وكانت تقوم في الغرب بحماية النصرانية،

<<  <  ج: ص:  >  >>