على نحو ما كانت الدولة الرومانية في الشرق، بل كانت مهمتها في هذه الحماية أشق وأصعب، إذ بينما كان الإسلام يهدد النصرانية من الجنوب، كانت القبائل الوثنية الجرمانية تهددها من الشمال والشرق. وكانت الغزوات الإسلامية تقف في المبدأ عند سبتمانيا ومدنها، ولكنها امتدت بعدئذ إلى أكوتين وضفاف الجارون، ثم امتدت إلى شمال الرون وولاية برجونية، وشملت نصف فرنسا الجنوبي كله، وهكذا بدا الخطر الإسلامي على مصير الفرنج والنصرانية قوياً ساطعاً، وبدت طوالع ذلك الصراع الحاسم، الذي يجب أن تتأهب لخوضه أمم الفرنج والنصرانية كلها.
كانت المعركة في سهول فرنسا إذاً بين الإسلام والنصرانية، بيد أنها كانت من الجانب الآخر بين غزاة الدولة الرومانية، والمتنافسين في اجتناء تراثها. كانت بين العرب الذين اجتاحوا أملاك الدولة الرومانية في المشرق والجنوب. وبين الفرنج الذين حلوا في ألمانيا وغاليس (فرنسا). والفرنج هم شعبة من القبائل البربرية التي غزت رومة وتقاسمت تراثها، من وندال وقوط وآلان وشوابيين. فكان ذلك اللقاء بين العرب والفرنج في سهول فرنسا، أكثر من نزاع محلي على غزو مدينة أو ولاية بعينها: كان هذا النزاع في الواقع أبعد ما يكون مدى وأثرا، إذ كان محوره تراث الدولة الرومانية العريض الشاسع، الذي فاز العرب منه بأكبر غنم، ثم أرادوا أن ينتزعوا ما بقي منه بأيدي منافسيهم غزاة الدولة الرومانية من الشمال.
وكانت هذه السهول الشمالية، التي قدر أن تشهد موقعة الفصل بين غزاة الدولة الرومانية، تضم مجتمعاً متنافراً، لم تستقر بعد قواعده ونظمه على أسس متينة. ذلك أن القبائل الجرمانية التي عبرت نهر الرين وقضت على سلطان رومة في الأراضي المفتوحة، كانت مزيجاً مضطرماً من الغزاة الظمأى إلى تراث رومة من الثروة والنعماء. وكان القوط قد اجتاحوا شمالي إيطاليا منذ القرن الخامس، وحلوا في جنوبي غاليس واسبانيا. ولكن هذه الممالك البربرية لم تكن تحمل عناصر البقاء والاستقرار، فلم يمض زهاء قرن آخر حتى غزا الفرنج فرنسا، وانتزعوا نصفها الشمالي من يد حاكمه الروماني المستقل بأمره، وانتزعوا نصفها الجنوبي عن القوط، وحلت في غاليس سلطة جديدة ومجتمع جديد. وكان الغزاة في كل