مرة يقيمون ملكهم على القوة وحدها، ويقتسمون السلطة في نوع من الإقطاع، فلا يمضي وقت طويل حتى تقوم في القطر المفتوح عدة إمارات محلية، ولم يعن الغزاة بإقامة مجتمع متماسك ذي نظم سياسية واجتماعية ثابتة، ولم يعنوا بالأخص بأن يندمجوا برعاياهم الجدد. فكان سكان البلاد المفتوحة من الرومان والغاليين، الذين لبثوا قرونا يخضعون لسلطان رومة، ما تزال تسود فيهم لغة رومة وحضارتها، ولكن القبائل الجرمانية الغازية كانت تستأثر بالحكم والرياسة، وتكون وحدها مجتمعا منعزلا، لبثت تسوده الخشونة والبداوة أحقاباً، قبل أن يتأثر بمدنية رومة وتراثها الفكري والاجتماعي. وكان اعتناق الفرنج للنصرانية منذ عهد كلوفيس، أكبر عامل في تطور هذه القبائل وتهذيب عقليتها الوثنية وتقاليدها الوحشية. ثم كان استقرارها بعد حين في الأرض المفتوحة، وتوطد سلطانها وتمتعها بالنعماء والثراء، بعد طول المغامرة والتجوال، وشظف العيش، وحرصها على حياة الدعة والرخاء، عوامل قوية في انحلال عصبيتها الحربية وفتور شغفها بالغزو، وإذكاء رغبتها في الاستعمار والبقاء. وهكذا كانت القبائل الجرمانية التي عبرت الرّين تحت لواء الفرنج واستقرت في غاليس، قد تطورت في أوائل القرن الثامن، إلى مجتمع مستقر متماسك نوعا. ولم تكن غاليس قد استحالت عندئذ إلى فرنسا، ولكن جذور فرنسا المستقبلة كانت قد وضعت، وهيئت الأسباب والعوامل لنشوء الأمة الفرنسية. بيد أن هذا المجتمع رغم تمتعه بنوع من الاستقرار والتماسك، كان وقت أن نفذ العرب إلى فرنسا، فريسة الانحلال والتفكك، وكان الخلاف يمزقه كما قدمنا. وكانت أكوتين وباقي فرنسا الجنوبية، في يد جماعة من الأمراء والزعماء المحليين، الذين انتهزوا ضعف السلطة المركزية، فاستقلوا بما في أيديهم من الأقاليم والمدن. ثم كانت القبائل الجرمانية الوثنية، فيما وراء الرين من جهة أخرى، تحاول اقتحام النهر من آن لآخر، وتهدد بالقضاء على مملكة الفرنج. فكان الفرنج يشغلون برد هذه المحاولات ويقتحمون النهر بين آونة وأخرى لدرء هذا الخطر، ولإرغام القبائل الوثنية على اعتناق النصرانية. فكانت المسألة الدينية أيضاً عاملا قويا في هذا النضال الذي يضطرم بين قبائل وعشائر تجمعها صلة الجنس والنسب. ولم ينقذ مملكة الفرنج من ذلك الخطر، سوى خلاف القبائل الوثنية وتنافسها وتفرق كلمتها (١).
(١) راجع Creasy: Decisive Battles of the World, Ch. VII ( الفصل السابع) =