للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيه أن يسير شئون المدينة بالعدل، وأن يستمع لظلامات أهلها، وأن يحميهم، وأن يرد إلى كل ذي حق حقه، إلى غير ذلك من الوعود الخلابة. ومع ذلك فقد احتل النصارى معظم دور المدينة وضياعها، ولم يستمع أحد إلى تذمر أو ظلامة، وتسلم السيد من ابن جحاف أموال القادر وذخائره، وأبقاه في منصبه قاضياً للمدينة، ولكنه شدد عليه في السؤال عما إذا كان قد بقي لديه شىء منها، وطلب إليه الحلف أمام أعيان الشهود من الملتين، فحلف ابن جحاف بأنه لم يخف شيئاً وليس لديه شىء منها. وأنذره السيد بأنه إن وجد لديه شيئاً مما تقدم، فإنه سوف يستبيح دمه، ووافق على هذا العهد أعيان الملتين، المسلمون والنصارى. وشاءت الأقدار أن يقع السيد بعد ذلك بقليل على مخبأ الحلي والذخائر التي انتزعها ابن جحاف من القادر حين مقتله، فكان ذلك نذيراً بنكبته المروعة، التي ترك لنا عنها المؤرخ البلنسي المعاصر، وشاهد العيان السابق ذكره أبو العباس بن علمقة، صوراً مؤسية مبكية.

ذلك أن السيد أمر في الحال بالقبض على ابن جحاف وأفراد أسرته، وعذبه عذاباً شديداً، ثم أمر بإعدامه حرقاً، فأقيمت له وقدة كبيرة في ساحة المدينة وأحرق فيها بصورة مروعة، ولقي هذا القاضي المجاهد مصيره بشجاعة مؤثرة.

قال ابن علقمة، وكان من شهود المأساة " إن القنبيطور أمر بتعذيبه أي ابن جحاف فعذب عذاباً شديداً، ثم أمر به فجمع له حطب كثير، وحفرت له حفرة وأقيم فيها، وأصير الحطب حوله، وأوقدت فيه النار فكان يضم النار إليه بيديه ليكون ذلك أسرع لخروج روحه " (١). وقال ابن بسام، بعد أن ذكر واقعة إحراق ابن جحاف: " أخبرني من رآه في ذلك المقام، وقد حفر له إلى مرفقيه، وأضرمت النار حوله، وهو يضم ما بعد من الحطب بيديه، ليكون أسرع إلى ذهابه، وأقصر لمدة عذابه، كتبها الله له في صحيفة حسناته، ومحا به سالف سيئاته، وهم الطاغية يومئذ بتحريق زوجه وبناته، فكلمه فيهن بعض طغاته، فبعد لأي ما لفته عن رأيه، وتخلصهن من يدي نكرائه. وأضرم هذا المصاب الجليل أقطار الجزيرة يومئذ ناراً، وجلل سائر طبقاتها حزناً وعاراً " (٢).


(١) أورده البيان المغرب في الذيل ج ٣ ص ٣٠٦.
(٢) الذخيرة - القسم الثالث المخطوط لوحة ١٩ ب.

<<  <  ج: ص:  >  >>