للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمر السيد كذلك بإحراق جماعة من أعلام بلنسية، ومنهم أبو جعفر البتي الشاعر المشهور (١)، وبدا السيد عندئذ في ثوبه الحقيقي، ثوب الفاتح المتجبر والطاغية المنتقم، فمال على البلنسيين، وأذلهم، واشتط في إرهاقهم بصنوف المظالم والمغارم. وكان من الظواهر المؤلمة يومئذ، أن التف حول السيد رهط من الخونة المسلمين، ومعظمهم من الأشرار والسفلة، انضووا تحت لوائه، وأخذوا يعيثون في المدينة فساداً، ويعتدون على إخوانهم، يقتلون الرجال، ويسبون النساء والأطفال، وقد ارتد عن الإسلام جماعة منهم، وكان يطلق يومئذ على تلك العصابات المجرمة اسم " الدوائر " (٢)، وغادر بلنسية كثير من أهلها المسلمين، واحتل النصارى دورهم وأحياءهم، وغدا السيد، وهو يزاول سلطانه بالقصر، كأنه ملك متوج، وسيد مملكة عظيمة، وغدا باستيلائه على بلنسية سيد شرقي الأندلس كله.

وفي محنة بلنسية يومئذ يقول الشاعر المعاصر أبو إسحاق بن خفاجه:

عاثت بساحتك العدا يا دار ... ومحا محاسنك البلى والنار

فإذا تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار

أرض تقاذفت الخطوب بأهلها ... وتمحصت بخرابها الأقدار

كتبت يد الحدثان في عرصاتها ... لا أنت أنت ولا الديار ديار

وروعت الأندلس لسقوط بلنسية في أيدي النصارى، كما روعت من قبل بسقوط طليطلة، وتوالى على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صريخ الأندلس، ورسائل أعيانها، تصف ما أصاب بلنسية وشرقي الأندلس من الدمار، وتقطيع الأوصال، والذل على يد النصارى. قال ابن بسام: " وتجرد أمير المسلمين عندما بلغه هذا النبأ الفظيع، واتصل به هذا الرزء الشنيع، فكانت قذى أجفانه وجماع شأنه، وشغل يده ولسانه ". واعتزم أمير المسلمين أن يسترد المدينة الأندلسية العظيمة، فسار إلى سبتة وحشد الجند، وندب ابن أخيه محمداً بن تاشفين ليقود الحملة، وكتب إلى حاكم غرناطة المرابطي، وإلى أمراء شرقي


(١) وهو أحمد بن عبد المولى البتي نسبة إلى بتة من قرى بلنسية. وكان من أكابر الأدباء وعلماء اللغة.
(٢) راجع رواية ابن الكردبوس السالفة الذكر: Recherches; V.II.App.II

<<  <  ج: ص:  >  >>