بالتوجع لأحوال عصره. قال:" قد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، مؤذنة بوشك القلعة، طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من آثاره. ولا شك عند أولى الألباب، ما أخفيناه مما دهانا من داء التقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه، على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة، إذ قدر الله زماننا هذا بالإضافة إلى ما عهدنا في القرن الذي سلخه من آخر أمد الجماعة، على إدراك ما لحق الذي قبله، فمثل دهرنا هذا - لا قدس - بهيم الشبه، ما إن يباهي بعرجه، فضلا عن نزوح خيره، قد غربل ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهل، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معالي الغي بأقوياء. نشأ من الناس هامل يعللون أنفسهم بالباطل، من أول الدلائل على فرط جهلهم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغرهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يتبجح عراص دورهم، ويستقري بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكراهم، لهاة عن بثهم، ما إن يسمع عندنا بمسجد من مساجدنا أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلا عن نافر إليهم أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا، أو كأن فتقهم ليس بمفض إلينا، قد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا بالقناء، عجائب فاتت التقدير، وعرضت للتغيير، ولله عاقبة الأمور وإليه المصير "(١).
ولما غادر الغزاة النورمان بربشتر بعد اقتحامها، والفتك بأهلها، والاحتواء على أموالها، تركوا لحمايتها ألفاً وخمسمائة من الفرسان وألفين من الرجالة، وقيل بل تركوا ألف فارس وأربعة آلاف راجل، واستقدموا إليها كثيراً من أهلهم وأقاربهم ومواطنيهم، وساروا عائدين إلى بلادهم، وفي ركبهم ألوف من سبي المسلمين نساء ورجالا، ومقادير هائلة من الأموال والغنائم المختلفة.
بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى وقعت المعجزة. وكان صدى النكبة قد نفذ
(١) نقلنا هذه الفقرة وما قبلها من أقوال ابن حيان وتفاصيل نكبة بربشتر، عن الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحات ٣٤ ب إلى ٣٦ ب. وراجع في ذلك أيضاً البيان المغرب ومعظمه أيضاً من أقوال ابن حيان السالفة الذكر ج ٣ ص ٢٢٥ و ٢٢٦، وأعمال الأعلام ص ١٧١. وكذلك Dozy: Histoire V.III.p. ٧٨ & ٧٩ -Recherches ; ٣eme Ed.V.II.p.٣٣٥-٣٥٣ وهو يترجم أيضاً رواية ابن حيان المشار إليها.