ويقرره عليه فيما أخفى، ويعذبه أشد العذاب، وربما زهقت نفس المسلم من دون ذلك فاستراح، وربما أنذره أجله إلى أسوأ من مقامه بذلك. فإن عداة الله يومئذ، كانوا يتولعون بهتك حرم أسراهم وبناتهم بحضرتهم، وعلى أعينهم إبلاغاً في نكايتهم، يغشون الثيب، ويفتضون البكر، وزوج تلك، وأبو هذه، موثق بقيد أسره، ناظر إلى سخنة عينيه، فعينه تدمع، ونفسه يتقطع. ومن لم يرض ذلك منهم أن يفعله، أعطى من خوله وغلمانه يعبثون فيهم عبثته، فبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، والحول والقوة لله العظيم ".
واستولى النصارى على مقادير هائلة من السبي والغنائم، ولاسيما النساء والأطفال. يقول ابن حيان " زعموا أنه صار لأكبرهم قائد خيل رومة في حصته نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل " ثم يقول بعد ذلك " ولما عزم ملك الروم (يريد قائد النورمان) على القفول يومئذ من بربشتر إلى بلده، تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيب ذوات الجمال، ومن صبيانهم الأيفاع، والخود الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه ". ويقول لنا صاحب الروض المعطار، إنه قد أهدى من أبكار الجواري المسلمين وأهل الحسن منهن إلى صاحب قسطنطينية خمسة آلاف، ويقدرهن ياقوت بسبعة آلاف " بكر منتخبة " (١).
وربما كان في تلك الأرقام - أرقام القتلى والأسرى والسبايا - مبالغة. ولكنها تدل على أي حال، مع ما اقترن بها من الأعمال الوحشية المروعة التي وصفها لنا المؤرخ المعاصر، على فداحة الخطب الذي نزل بأهل بربشتر، وعلى مبلغ تجرد أولئك الغزاة النورمان من أبسط الصفات الإنسانية، وهو خطب كان حسبما يصفه ابن حيان " أعظم من أن يوصف أو يتقصى ". ولما وصلت أنباؤه إلى قرطبة في أوائل رمضان (٤٥٦ هـ)، حيث كان يقيم المؤرخ، وذاعت في مختلف الأنحاء اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، وسادها الاشمئزاز والروع لتلك الفظائع والشناعات التي لم يسمع بمثلها.
وقد كانت هذه المحنة مادة خصبة لتأملات ابن حيان، ونظراته النقدية الصائبة، وإليك من أقواله تلك الفقرة التي تدلي بالنذير والنبوءة الصادقة، وتفيض
(١) راجع الروض المعطار ص ٤٠. وراجع معجم البلدان لياقوت تحت كلمة بربشتر.