الماء عن المحصورين، واشتد بهم الظمأ وبدا لهم شبح الموت جاثماً، فبعثوا إلى النورمان يعرضون التسليم على أن يؤمنوا في أنفسهم وأولادهم، وأن يخرجوا من المدينة دون مال، فوافق النورمان على ذلك. وفي رواية أخرى أن النورمان أبوا ذلك، واضطر المسلمون إلى مدافعتهم، حتى اقتحموا عليهم المدينة. وعلى أي حال فقد دخل النورمان المدينة دخول الوحوش المفترسة، وأمعنوا في أهلها قتلا وسبياً، ولم يطلقوا منها غير قائدها ابن الطويل، وقاضيها ابن عيسى، ونفر قليل من الأعيان.
وهنا تبسط الرواية الإسلامية القول فيما ارتكبه النورمان من الفظائع، وتقدر عدد القتلى والأسرى من أهل المدينة بأربعين ألفاً (١) أو بخمسين ألفاً، بل بمائة ألف في رواية أخرى، وهلك عدد كبير من النساء، حينما تطارحن على الماء لإرواء ظمئهن، فكبسهم العدو للأذقان موتاً. ولما خرجت الجموع من المدينة في ظل الأمان المقطوع، ورأى قائد النصارى كثرتهم، هاله ذلك، وخشي أن تأخذ الجموع الحمية، فيهبوا لاستنقاذ أنفسهم، فأمر ببذل السيف فيهم ليخف من أعدادهم، فقتل منهم عندئذ ما يزيد على ستة آلاف. ومات خلال الزحام كثير من الشيوخ والأطفال، وتدلي كثير من الأسوار اتقاء الزحمة، وامتنع نحو سبعمائة رجل بالقصبة، فمات معظمهم عطشاً. على أن ذلك لم يكن أشنع ما نزل بالمسلمين بل كانت تنتظرهم فظائع أخرى لا يخلق ارتكابها إلا بأخس المحاربين وأنذلهم، ونحن نترك القول هنا لابن حيان، يصف لنا بقلمه البليغ طرفاً من تلك المناظر البشعة المؤسية:
" ولما برز جميع من خرج عن المدينة بفناء بابها بعد من خفف منهم بالقتل، وهلك في الزحمة، ظلوا قياماً ذاهلين، منتظرين نزول القضاء فيهم، نودي فيهم بأن يرجع كل ذي دار إلى داره ووطنه بأهله، وأزعجوا لذلك، فنالهم من الازدحام، قريباً مما نالهم في الخروج عنها. ولما استقروا بالدور مع عيالهم وذرياتهم، اقتسمهم المشركون، فأمر سلطانهم، فكل من صارت في حصته دار حازها، وحاز ما فيها من أهل وولد ومال. فيحكم كل علج منهم فيمن سلط عليه من أرباب الدور بحسب ما يبتليه الله به منهم، يأخذ كل ما أظهره إليه،