من فرنسا. فهي تقول لنا " إن الفرنج خرجوا من الأرض الكبيرة (أي فرنسا) إلى الأندلس في جموع كبيرة ليس لها حد، ولا يحصى لها عدد إلا الله، وانتشروا على ثغور سرقسطة "(١) ثم إنه ليس من الواضح أيضاً ما إذا كانت هذه الحملة قد عبرت إلى اسبانيا من طريق جبال البرنيه، أن جازت إلى قطلونية بطريق البحر. وعلى أي حال فقد نزل أولئك النورمان في قطلونية واجتازوا إلى أراضي مملكة سرقسطة، إذ كانت تحمي مؤخرتها أرض نصرانية هي مملكة برشلونة. وقصدوا أولا إلى مدينة وشقة إحدى قواعد سرقسطة الرئيسية، فنازلوها أياماً، ولما لم ينالوا منها مأرباً غادروها وساروا شرقاً حتى مدينة بربشتر، وهي لا تقل عن وشقة أهمية وحصانة.
وتقع مدينة بربشتر على فرع صغير من أفرع نهر إبره بين مدينتي لاردة ووشقة، في الشمال الشرقي لسرقسطة، وكانت يومئذ من أمتع القواعد الإسلامية الشمالية. فنزل عليها النورمان، وضربوا حولها الحصار، وذلك في أوائل سنة ٤٥٦ هـ (ربيع سنة ١٠٦٤ م). ولم يبادر المقتدر لإنجاد المدينة المحصورة، إذ كانت من أعمال أخيه يوسف المظفر، فكان ذلك منه جبناً ونذالة، أدرك عواقبهما فيما بعد، ولم يستطع يوسف نفسه إنجادها، فتركها لمصيرها. واستمر الحصار أربعين يوماً، والمسلمون صامدون داخل مدينتهم الحصينة، وكانت حاميتها تخرج من آن لآخر، وتخوض مع الأعداء معارك شديدة، ثم ترتد إلى الداخل. ولما اشتد الضيق بالمدينة المحصورة، وعزت الأقوات، وقع الهرج والتنازع بين أهلها، وعلم النورمان بذلك، فشددوا قبضتهم وضاعفوا جهودهم، واستطاعوا بعد قتال عنيف أن يقتحموا المدينة الخارجية، واحتلها منهم نحو خمسة آلاف دارع، ودافع المسلمون عن أنفسهم أشد دفاع، وقتلوا من المهاجمين نحو خمسمائة، ثم تحصنوا بالقصبة والمدينة الداخلية معولين على الدفاع عن أنفسهم لآخر لحظة، لولا أن حدث حادث عجل بوقوع الكارثة. ذلك أن القصبة كان يمدها بالماء سرب داخلي تحت الأرض متصل بالنهر، فوقف النورمان على سره من أحد الخونة فهدموه وألقوا فيه صخرة عظيمة، وانقطع
(١) الحلل الموشية ص ٥٤. وراجع أيضاً الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص ٤٠ حيث يقول لنا في كلامه عن بربشتر: " وقد غزاها على غرة وقلة عدد من أهلها وعدة، أهل غاليش والروذمانون ". وغاليش هي فرنسا، والروذمانون هم النورمان.