والتدخل في شئونها، حسبما سبق شرحه في موضعه في أخبار مملكة بلنسية، وتوفي أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله في سنة ٤٧٤ هـ (١٠٨١ م) من كَلَب شديد أصابه من عضة كلب، بعد أن حكم مملكة سرقسطة خمسة وثلاثين عاماً، وكان قبيل وفاته قد ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه أبوه بتقسيم مملكته بين ولديه، فخص ولده الأكبر وهو يوسف المؤتمن بسرقسطة وأعمالها، وخص ولده الأصغر المنذر بلاردة ومنتشون وطرطوشة ودانية.
ومما هو جدير بالذكر أن مملكة سرقسطة كانت في ظل بني هود، لظروفها المترتبة على وقوعها بين الممالك النصرانية، واضطرارها إلى مهادنتها ومصانعتها، تؤثر سياسة التسامح الديني، وكان النصارى يعيشون في ظل بني هود، في ظروف حسنة، ويتمتعون بسائر الحريات الفكرية والدينية، وقد شجع هذا التسامح الذي أثر عن بني هود نحو رعاياهم النصارى، راهباً فرنسياً، على أن يكتب إلى المقتدر بن هود رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق النصرانية، وبعث رسالته المذكورة مع راهبين من زملائه ليشرحا للمقتدر تعاليم الدين المسيحي ومزاياه (١)، فاستقبل المقتدر الرسولين برفق وكياسة، ولم يثر لما تضمنته رسالة الراهب من جرأة وتهجم صارخ، بل عهد إلى العلامة الفقيه أبى الوليد الباجي، وكان يومئذ يعيش في سرقسطة في كنفه وتحت رعايته، بأن يكتب عن لسانه إلى الراهب رداً، يفند فيه دعاوى الراهب في رسالته، ويبين ما تنطوي عليه هذه الدعاوى من بطلان وتناقض. فكتب الباجي رده المشهور على هذه الرسالة، وهو رد مسهب، يفيض منطقاً وبلاغة، وفيه يفند الباجي مزاعم الدين المسيحي، وألوهية المسيح وغيرها، بقوة، ويشرح تعاليم الإسلام بوضوح، ويدعو الراهب بالعكس إلى اعتناق الإسلام، وينوه بمعجزة القرآن وروعته، ويدلل ببراعة على بطلان التعاليم المسيحية وتناقضها.
وكان المقتدر بن هود من أعظم ملوك الطوائف. ويصفه الحجاري في المسهب بأنه " عميد بني هود وعظيمهم، ورئيسهم وكريمهم ". وكان فضلا عن
(١) وردت رسالة الراهب الفرنسي في مخطوط الإسكوريال رقم ٥٣٨ الغزيري، عقب رسالة ابن غريسة والرد عليها، ودونت من بعدها رسالة أبي الوليد الباجي في الرد على الراهب المذكور، وهو رد طويل يملأ خمس عشرة صفحة، وقد نشر الأستاذ دنلوب D.M.Dunlop نص الرسالتين في مجلة الأندلس Al - Andalus Vol.XVII, ١٩٥٢، وقرنهما بترجمة انجليزية.