للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كانت سرقسطة في عهد بني هود، كما كانت إشبيلية في عهد بني عباد، مركزاً لحركة علمية وأدبية زاهرة، وكان بنو هود من حماة العلوم والآداب، وقد نبغ بعضهم في ميدان التفكير، ولاسيما أبو جعفر المقتدر، وولده يوسف المؤتمن، وقد كان كلاهما من أكابر علماء عصره، في الفلسفة والرياضة والفلك، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل. وقد اشتهرت سرقسطة في هذا العصر بنوع خاص، أعني في القرن الحادي عشر الميلادي بالدراسات الفلسفية والرياضية.

وكان من أعلام أبنائها في هذا العصر، فيلسوف من أعظم فلاسفة الإسلام وعلمائه، هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجة، والذي يعرف في الغرب باسمه اللاتيني Avempace. وقد نشأ ابن باجة في أواخر القرن الحادي عشر بسرقسطة ودرس بها، وعاش فيها حتى مطلع شبابه قبل أن تسقط في أيدي الإسبان ونبغ في الرياضة والفلك والطبيعة والفلسفة، هذا فضلا عن براعته في الشعر والأدب.

ولما ولي الأمير أبو بكر بن إبراهيم اللمتوني حكم سرقسطة من قبل المرابطين، ندب ابن باجة لوزارته، واختص به، وأغدق عليه عطفه ورعايته، بالرغم مما كان يرمي به الفيلسوف من الميول والآراء الإلحادية. ولما سقطت سرقسطة في أيدي الإسبان (١١١٨ م) غادرها ابن باجة إلى إشبيلية، ثم إلى شاطبة، ثم نزح من الأندلس إلى المغرب، وعاش هناك حتى توفي في سنة ١١٣٨ م. وقد كتب ابن باجة زهاء خمسة وعشرين كتاباً لم يصلنا منها سوى القليل، وترك لنا عدداً من القصائد الرصينة الجزلة التي تنم روعة خياله ورائق نظمه. وهو يعتبر على العموم من أعظم المفكرين والفلاسفة الأندلسين، وقد كان لآرائه ونظرياته تأثير كبير في تفكير الفيلسوف أبي الوليد بن رشد الحفيد (١).

ونبغ في سرقسطة أيام بني هود في عهد المستعين بن المؤتمن، المفكر والفيلسوف السياسي أبو بكر الطرطوشي، نسبة إلى طرطوشة ثغر سرقسطة، وهو صاحب كتاب " سراج الملوك " الذي يعتبر بموضوعه ونظرياته المبتكرة، من الكتب التي وضعت أسس السياسة الملوكية في التفكير الإسلامي. ويشير ابن خلدون إلى هذا الكتاب في مقدمته ويعتبره من الكتب التي سبقته في موضوعه (٢). وقد وضع الطرطوشي كتابه أثناء إقامته بمصر أيام الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش، وأهداه


(١) راجع الإحاطة لابن الخطيب ج ١ ص ٤١٤ - ٤١٦.
(٢) ابن خلدون في المقدمة (بولاق) ص ٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>