ولعبت سرقسطة بالأخص دوراً كبيراً في التبادل الثقافي والحضاري بين الأندلس وبين الدول الإسبانية المجاورة، والدول الفرنجية الشمالية، وقد هيأ لها موقعها بين الممالك الإسبانية على مقربة من جبال البرنيه، أن تضطلع بهذا الدور الحضاري الخطير. ومما هو جدير بالذكر أنها كانت في ذلك العصر، مهبط الفرسان النصارى من كل جنس، يجدون في بني هود وفي بلاطها الباذخ، ساحة رحبة، وكانت مركزاً لأشعار الفروسية والشعر الغنائي، الذي كان ينتشر يومئذ في أرجاء قطلونية وأراجون ونافار، ومنها كانت تنقل المقطوعات الغنائية الأندلسية إلى المجتمعات النصرانية المجاورة، فتؤثر في الملاحم والأناشيد القومية.
وقد انتقلت هذه المؤثرات، فيما بعد بمضي الزمن عبر جبال البرنيه إلى جنوبي فرنسا، ثم إلى غيرها من المجتمعات النصرانية.
ويجب أخيراً ألا ننسى دور سرقسطة المسلمة، في ترويج التبادل التجاري والمهني بين الشرق والغرب، فقد كانت مملكة سرقسطة بسيطرتها على جزء كبير من البحر المتوسط، وثغريها الكبيرين طرّكونة، وطرطوشة، تستقبل شطراً كبيراً من تجارة المشرق وتجارة الأندلس والمغرب، وتعمل على تصريفها إلى الأمم الأوربية عن طريق ثغور فرنسا الجنوبية، وثغور إيطاليا. وكان بنو هود يجنون من وراء ذلك أرباحاً طائلة، سواء من المكوس أو الوساطة التجارية، وقد كانوا في الواقع من أغنى ملوك عصرهم، وكان بلاطهم من أفخم قصور الطوائف، وأكثرها روعة وبذخاً، وإن لم تكن لهم شهرة في الجود والبذل، وقد استطاعوا بهذا الغنى الطائل، أن يجتذبوا الفرسان والمرتزقة النصارى لخدمة سياستهم، واستطاعوا بدفع الإتارات الوفيرة للملوك النصارى، أن يتقوا عدوانهم أطول وقت ممكن، ومن ثم فقد لبثت سرقسطة عصراً طويلا بمنجاة من تلك الغزوات المخربة، التي كانت تنكب بها دول الطوائف الأخرى.