جاء طالوت، وأحضر لهم التابوت، بما بقي من ألواح موسى، فبايعوه ملكا عليهم، فدعاهم إلى الجهاد، وقتال أعدائهم الذين أذلوهم، وجهز جيشا كبيرا، سار به إلى عدوه وعدوهم، وأراد طالوت أن يفجأ العدو، وكان بينه وبين عدوه نهر، فأمر جنوده باجتياز النهر بلا شراب، أو استحمام، أو راحة, وعرفهم بضرورة تنفيذ أوامره؛ لأنها من الله، فمن أطاعه ولم يشرب فهو معه، ومن عصاه وشرب فلن يكون معه، وقد قال لهم طالوت ذلك؛ لأنه قادم على معركة، ومعه جيش من المهزومين الأذلاء، أمام جيش قوي، يعتز بانتصاراته وهيمنته، رأى طالوت ضرورة تمتع جنوده بقوة كامنة في الإرادة والعزيمة، بها تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات، والحاجات ... ورأى طالوت أهمية اختبار صمودهم أمام رغباتهم، وصبرهم أمام متاعهم، وحدد لهم جوانب الابتلاء والاختبار وهم على النهر، وكانوا عطاشا؛ ليتميز الصالح من غيره.
قال لهم طالوت ذلك، لكنهم خالفوه، فشربوا، وارتووا، واغتسلوا، فطردهم لعدم صلاحيتهم للمهمة القادمين عليها ... ودلت التجربة على أهمية الاختبار العملي، وعدم الاكتفاء بالنية اللفظية.
طرد طالوت المخالفين, وأبقى الذين أطاعوه ولم يشربوا رغم قلتهم، فلما اقترب اللقاء نظر فريق ممن كانوا معه إلى الأعداء، ورأوهم كثرة فهابوهم، وخافوا من لقائهم، فرد عليهم المؤمنون الصادقون قائلين: إن الله تعالى ينصر الفئة القليلة المؤمنة الصابرة على الفئة الكثيرة الظالمة، ونصر الله غالب، وهو على كل شيء قدير.
والتحم الفريقان، وسأل المؤمنون النصر من الله، ورجوه أن يلهمهم الصبر، ويثبت أقدامهم أمام الفئة الباغية، واشتد القتال، وكان داود -عليه السلام- شابا يافعا، اشترك في المعركة، وحمل مقلاعا، ووضع به حجرا، وصوبه نحو جالوت قائد الأعداء، وقذفه فقتله، وبقتل جالوت انهار العدو، وتفرق جنده، وانتصر طالوت ومن معه, يقول تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ