للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثالثاً: تَطَوُّرُ السَّبْرِ بِمَفْهُومِهِ الوَاسِعِ (أَوَاخِرُ القَرْنِ الأَوَّلِ، وَأَوَائِلُ القَرْنِ الثَّانِي):

بعدَ اهتمامِ الأئمَّةِ بالإسنادِ ورجالِهِ، تضاعفتْ أعدادُ الأسانيدِ لتصلَ إلى مئاتِ الآلافِ ومعَ تضاعُفِ الأسانيدِ وتضاعُفِ رُوَاتِهَا، كانَ لا بُدَّ منْ حصرِ مرويَّاتِ كلِّ راوٍ وسبرِهَا، وسبْرِ متابعاتِ كلِّ حديثٍ وشواهِدِهِ، فأخَذَ منهجُ السَّبرِ وجمعِ الطُّرقِ بالتَّطوُّرِ والارتقاءِ - أي: في أواخِرِ القرنِ الأوَّلِ الهجرِيِّ، وأوائلِ القرنِ الثَّاني الهجرِيِّ - وقدْ بيَّنَ ابنُ حبَّانَ «ت ٣٥٤ هـ» في كتابِهِ المجروحينَ بدايةَ السَّبرِ بمفهومِهِ الواسِعِ - تتبُّعُ المرويَّاتِ وجمعُهَا وموازنتُهَا ومقارنتُهَا - والرِّحلَةَ لأَجْلِهِ، وأَنَّهُ نشأَ على يدِ أوَّلِ طبقَةٍ منَ التَّابعينَ، فقالَ بعدَ أنْ ذكرَ تفتيشَ الصَّحابَةِ وتثبُّتَهُمْ في الرِّوايَاتِ، واتِّباعَ سَادَاتِ التَّابعينَ لهم في ذلكَ: «أَخَذَ عَنْهُمُ العِلْمَ، وَتَتَبُّعَ الطُّرُقِ، وَانْتِقَاءَ الرِّجَالِ، وَرَحَلَ فِي جَمْعِ السُّنَنِ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُمْ، مِنْهُمُ: الزُّهْرِيُّ «ت ١٢٤ هـ»، وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ «ت ١٤٤ هـ»، وَهِشَامُ بنُ عُرْوَةَ «ت ١٤٦ هـ»، وَسَعْدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ «ت ١٢٥ هـ» … » (١).

وأوَّلُ منِ اعتمَدَ السَّبرَ وجمعَ الطُّرقِ هوَ الشَّعبِيُّ «ت ١٠٣ هـ»، قالَ ابنُ حجرٍ «ت ٨٥٢ هـ»: «أَمَّا جَمْعُ الحَدِيثِ إِلَى مِثْلِهِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ سَبَقَ إِلَيهِ الشَّعْبِيُّ، فِإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ الطَّلاقِ جَسِيمٌ، وَسَاقَ فِيهِ أَحَادِيثَ» (٢).


(١) المجروحين ١/ ٣٩.
(٢) انظر تدريب الراوي للسيوطي ١/ ٨٩. وقد أورد سعيد بن منصور «٢٢٧ هـ» في سننه «١/ ٢٦٨/ ٩٣٢» بسنده عن الشعبي قال: «باب من الطلاق جسيم: "إذا اعتدت المرأة ورثت"». وفي هذا إشارة إلى أنَّ تدوين الحديث بجمع الحديث إلى مثله سابق لتدوينه في أبواب، قال شيخنا محمد عجاج: «وهناك أخبار كثيرة تثبت أن جمع الأبواب بعضها إلى بعض كان بعد جمع الأحاديث في باب واحد. من ذلك ما رواه خالد بن دينار، قال: قلت لأبي العالية: أعطني كتابك؟ قال: "ما كتبت إلا باب الصلاة، وباب الطلاق". وقال يحيى بن سعيد: "كان سفيان صاحب أبواب". وقال سفيان الثوري: "كم من أحاديث طنانات لا يؤبه لها قد أخرجنا عن صاحب هذا القبر «ابن جريج» في أبواب"». انظر السنة قبل التدوين ص ٢٢٢ في الهامش، وانظر تخريج الأقوال في الجامع لأخلاق الراوي ٢/ ٢٨٥، وتاريخ مدينة دمشق ١٨/ ١٧٨.

<<  <   >  >>