للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقدْ رأينَا كيفَ أنَّ أئمَّةَ الحديثِ، لمْ يكُن جمعهُمْ للحديثِ على حسابِ تفقُّهِهِم فيهِ، وهذا بيِّنٌ منْ تصانيفهِمُ الَّتي بوَّبوهَا باستنباطاتٍ فِقهيةٍ غايةٍ في الدِّقَّةِ والرَّصانَة، كالكُتبِ السِّتَّةِ، ناهيكَ أنَّ الإمامَ ابنَ حنبلٍ إمامٌ لمذهَبٍ فِقهيٍ، والجمعُ المذمومُ للطُّرُقِ والأسانيدِ ما كانَ على حسابِ التَّفقُّهِ في معانيهِ، قالَ الخَطيبُ «ت ٤٦٣ هـ»: «وَهَذِهِ العِلَّةُ - أي جَمْعُ الطُّرُقِ وَالأَسَانِيدِ - هِيَ الَّتِي اقْتَطَعَتْ أَكْثَرَ مَنْ فِي عَصْرِنَا مِنْ طَلَبَةِ الحَدِيثِ عَنِ التَّفَقُّهِ بِهِ، وَاسْتِنْبَاطِ مَا فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ» (١).

٤ - قيامُ الأحداثِ وغيرِ المتخصِّصينَ بتتبُّعِ الطُّرُقِ وجمعِ الأسانيدِ: لأنَّ قيامَ مثلِ هؤلاءِ بجمعِ الطُّرقِ وتتبعِ الأسانيدِ، لا طائلَ منهُ سوى الاستكثارُ مما ينبغِي الإقلالُ منهُ والإقلاعُ عنهُ، إذْ لا درايةَ لهمْ في استخراجِ العللِ، وإبرازِ الفوائدِ، فهُم لم يصلُوا إلى درجةٍ تُخوِّلُهم التَّمييزَ بينَ الصحيحِ والضَّعيفِ، والمقبولِ من المردودِ، فتنقضِي أعمارُهُم دونَ بلوغِ الغايةِ - إنْ وُجدَتْ - فمثلُ هذا لمْ يقُم بهِ إلا جهابذَةُ النُّقَّادِ منْ أهلِ الحديثِ. قالَ الخطيبُ «ت ٤٦٣ هـ»: «وَأَكْثَرُ مَنْ يَجْمَعُ ذَلِكَ: الأَحْدَاثُ مِنْهُمْ، فَيَتَحَفَّظُونَهَا وَيُذَاكِرُونَ بِهَا، وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الصِّحَاحِ حَدِيثاً، وَتَرَاهُ يَذْكُرُ مِنَ الطُّرُقِ الغَرِيبَةِ وَالأَسَانِيدِ العَجِيبَةِ التِي أَكْثَرُهَا مَوضُوعٌ وَجُلُّهَا مَصْنُوعٌ، مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ أَذْهَبَ مِنْ عُمُرِهِ جُزْآً فِي طَلَبِهِ» (٢).


(١) شرف أصحاب الحديث للخطيب ١/ ١٢٩.
(٢) المصدر السابق.

<<  <   >  >>