للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والفرق بين التَركَين هو ظهور القصد الذي يدل عليه أصل العمل كان من جنس ما يُتعبد به أو من المباحات. قال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب ٢١] فطلب الأسوة من جهة الرسالة، إذ لم يقل: " لقد كان لكم في محمد أسوة " إذن لاحتمل أن ينصرف الطلب إلى كل ما صدر منه ، ولكن علق التأسي بما صدر منه من جهة كونه رسولا وذلك إن شاء الله بدلالة التنبيه والإيماء، لذلك جعل سبحانه التأسي (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أي يرجو الثواب وهو التعبد. وذلك في الفعل والترك. وهذا ما لم يندرج تحت نهي خاص كالفعل مع الأمر سواء بسواء.

- ومنها أن الترك يفيد استحباب الترك وكراهة الفعل، لأن الفعل يفيد الندب وكراهة الترك، والترك فعل من الأفعال، فهو دال على استحباب الترك وأن فعل المتروك مكروه. فكل عبادة ترك العمل بها لا يحكم باستحبابها، بل المستحب تركها، وفاقا للعمل الأول.

- ومنها أن الترك بيان للنهي كما أن الفعل بيان للأمر. فكما أن الفعل يقوي دلالة الأمر، كذلك الترك يشد من دلالة النهي، ولو أن النبي نهى عن شيء ثم فعله، كان الفعل مشكلا على النهي كما في خبر الوصال في الصوم [خ ٦٤٥٩]، ومتى ترك ما نهى عنه كان أشد بيانا لدلالة النهي على أن الخير كله في الاجتناب، فالترك - أي المستمر - إذا تظاهر مع النهي يصيره "قطعيا"، وهذا معنى قولنا أنه بيان له. لذلك كان الترك بيانا شافيا لعموم قول النبي : وإياكم ومحدثات الأمور .. كما سيأتي.

- ومنها أن المتروك في السنة غير مقصود التشريع، إذ لو قصده رسول الله وخطر في ذهنه بكلامه العام، فلا بد إذن أن يفعله، ولو فواقا (سويعة) في سنوات التشريع، أو لحض عليه خاصة ليعمل به أصحابه، أو لنبه على فضل هذا العمل ومقدار ثوابه على سَنَن التشريع النبوي. إذ كيف يكون مطلوبا فعله بذلك الأمر العام ثم لا يفعله الذي أمر به في عموم خطابه ، ويرى أصحابه لا يفعلونه ثم لا ينبههم! هذا محال! وللقائل به لوازم منكرة .. فكان في الترك دلالة بينة على عدم التشريع.

<<  <   >  >>