الحاصل أن نقول في كل عمل: الأصل التوقف، فإذا ثبت العمل مطلقا فأكثِرْ ما شئتَ غير قاصد تخصيصه بزمان أو مكان .. ومن ادعى في عمل تردَّدَ في سنة النبي ﷺ وعملِ أصحابه بين الفعل والترك أن المداومة عليه مقصودة شرعا كان عليه أن يأتي بالبرهان على أن عدم المواظبة كان لمانع، وهيهات! فمن أمحل المحال أن يكون ذلك مقصودا للشرع ثم يعزب عن السابقين الأولين خير الناس فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا.
وهذا اللون من الإحداث يكون بقصد ذلك التخصيص أو بما دل على القصد أو أفضى إليه كالمواظبة، لذلك لم ينكر النبي ﷺ على الصحابة الذين عملوا أعمالا مطلقة إذ كانت في مظانها.
وهذا الذي سماه المتأخرون تخصيصا وتقييدا كان السلف يسمونه شيئا موقتا ويكرهون أن يوقتوا شيئا من العمل كما روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يكره أن يوقت يوما يصومه. وكانوا لأجل هذا يعرفون للسنن منازلها، فيفرقون بين ما جعل فيه وقت وما لم يوقت فيه شيء، وهذا لسانهم وهو خير بيانا وأعظم بركة، وإنما صَدَّرتُ السياق بلسان الأصوليين للتنبيه على هذه النكتة.
ومن تتبع العمل العتيق عرف مظان ما وقت فيه حد يُنتهى إليه مما لم يوقت وهو أكثر. كأذكار الصلاة فإن النبي ﷺ لم يوقت منها شيئا في السجود والركوع وبعد القيام منه وما بين السجدتين وقبل السلام .. كما لم يوقت سنة في دعاء الجنازة ولا في الطواف ولا على الصفا والمروة (١) .. كل هذا يُعلم بمجموع العمل - عملِ النبي وأصحابه - مظانُّه. وفي الصحيحين عن رفاعة بن رافع قال: كنا يوما نصلي وراء النبي ﷺ، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده. قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم. قال: أنا. قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول. [خ ٧٩٩/ م ١٣٨٥] فإذا قال المؤتَمُّ ربنا ولك الحمد كسائر التكبير عند الانتقال وهو شيء مؤقت كانوا يتعاهدونه
(١) - كذا قال مالك بن أنس وهو أعدل الأقوال وأشبهها بالأمر العتيق.