وهذا كما فعلوا في لفظ العلم أشاعوا استعماله في كشوفهم التجريبية وأطلقوا العناوين "العلم والدين" ليتميز عنه .. حتى نشأت أجيال لا ترى العلم إلا التجربة، فتنكروا للدين وأزروا على العلماء الربانيين! لأن لفظ "العلم" يشعر بالثقة في ما دل عليه، وأن ما سواه جهل وريب .. ولو حافظوا على لفظ العلم باستعماله في العلم بالله ومحابه التي هي شريعته ثم سموا ما دونه باسمه كالطب والفلك .. ولكن غلب الإعلام على السامعين ..
ومن الحوادث في تاريخ العلم أن توسع ناس في اللسان، وفتحوا باب الاصطلاح، فعمدوا إلى ألفاظ في القرآن والسنة ولسان الراسخين في العلم، فضيقوا معانيها كلفظ الفقه والنسخ (١)، وألفاظ وضعوها على غير استعمال الشرع كالتأويل والحكمة، وأحدثوا ألفاظا جديدة لمعان شرعية قديمة كالمجتهد والاستحسان، وقالوا: هذه أدق وأحكم! وأن المصطلح لم يكن في استقرار حتى جاء المحققون!! وقالوا بعدُ لمن أنكر عليهم: لا مشاحة في الاصطلاح!
وليس الأمر كما توهموا، فإن العرب كانوا ينكرون كل لفظ غير عربي ولا معهود في استعمالهم، ويعُدون ذلك عجمة و عيّاً. والقوم إذ توسعوا في إحداث الأسامي جعلوها عنوان معرفة صاحب الفن من الدخيل فيه، فإذا زل أحد في استعمال مصطلح غمزوه بعدم العرفان، كمن سوَّى في اللفظ بين الضابط والقاعدة، والعلة والحكمة .. وما شابه ذلك، فشاحوا في الاصطلاح .. !!
وقد قرروا أن كل علم لا يسمى علما وفنا قائما بذاته إلا إذا اجتمع له ثلاث خصائص:
مصطلحات محررة خاصة، وقواعد منضبطة وهي جوامع كلم مُوَلَّفّةٌ من
(١) - إطلاق الأولين النسخ على التخصيص - بالمنفصل - أولى، فَهُمْ أهل العلم، وفيه فوائد: أولها الإخبار بأن الناسخ (المخصص) متأخر النزول، وهو معنى لا يفيده لفظ التخصيص لذلك زعموا أن آية الأنعام (أو دما مسفوحا) وهي مكية مقيدة لعموم الدم في سورة المائدة وهي مدنية. الثانية: الإخبار أن العموم الأول كان مأمورا به أو معمولا به قبل، وهذا لا يعطيه لفظ التخصيص. الثالثة: الإخبار عن الحكم المستقر الذي هو السنة وحاصل المسألة.