للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وانظر كيف اختلف الناس في بيان معنى "الاستحسان" لما أحدث على غير استعمال سابق! ولو سمي ترخصا لبان معناه، ولما اختلفوا إن شاء الله. إذ الترخص أدل على أن مظانه قليلة كحاله في الشرع، وأنه متوقف على إذن وترخيص، وأن الأصل هو الحزم والامتثال. بخلاف الاستحسان فإنه مشعر بتحكيم الهوى والأذواق، وأن الأصل الذي انتُزع منه شاق! ولكل محدثة شؤم بحسبها.

كذلك لما واظب النبي على استعمال لفظ البدعة في الذم، تبيَّن أن القصد أن يصير هذا الحرف علما على الزائد المذموم، فيكون لفظا دالا على معنى، ومنفرا للنفس منه. لكن لما خلف من بعدُ من أشاع استعمال اللفظ في ما استحسنوه تعلقا بالمتشابه، أضعفوا دلالة اللفظ المعنوية والنفسية، بل سموا الابتداع تجديدا ليُلبس زينة القبول .. فخالفوا منهاج الشرع ومقاصده، والله المستعان.

كذلك قسم الرب تعالى آيات كتابه إلى محكمات هن أم الكتاب ومعظمه وأخر متشابهات قليلة، وهو العليم بكتابه .. ثم بدل ناس بعدُ قولا غير الذي قيل لهم فقالوا: "قطعي" و"ظني"، وكان الظني أشبه بالظن المذموم في اللسان والشرع مما لا يفيد المعنى إلا مع الاحتمال .. فلما أحدث واستعمل في آيات العمل صار له دلالة معنوية وهو رجحانه في ظاهره على أغلب الظن، ودلالة نفسية وهي الاحتمال والريب! وقد نبئوا في الكتاب أنه لا ريب فيه! والقطعي ما لا يدخله احتمال عقلي بوجه، وليس يخلو دليل من احتمال مفترض توهموه .. فصار القطعي بوضعهم أندر شيء في الكتاب، والظني أكثره، على خلاف ما أنزل الله على رسوله! فضعف اليقين، واختلف الناس في الدين.

كذلك لما أحدثوا في أصول الشريعة كلمتهم: "هل قول الصحابي حجة" دخل الإشكال! فخاضوا في العصمة والإجماع .. إلى مفاوز قفر! فلم ينتهوا حتى خالفوهم.

<<  <   >  >>