للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فرق: يتعين تحرير فرق بين البدعة والمعصية، إذ كلاهما مخالفة في الدين، وبابهما من حيث النهي واحد، لكن يتزايلان من وجه، وهو أن المعصية ما اقتحمه المرء عالما بالنهي من غير شبهة فالحامل له عليها هو الشهوة لا الشبهة. أما البدعة فتكون مع اعتقاد الإذن أو الطلب، يظن صاحبها أنه مطيع ممتثل. بخلاف المعصية تكون مع إقرار النفس بأنها مخالفة وليس فيها افتراء على الله ورسوله. لذلك كان تُرجى التوبة من العاصي بخلاف المبتدع (١). ولا بد لكل عامل من عقد قلب ونية، فما لم يكن معصية كان بدعة.

إذا تبين هذا عرفنا وجه الابتداع في التزام غسل اليدين عند الطعام، أنه لزعم صاحبها أنها من مكارم الأخلاق التي يؤجر عليها ابن آدم وليست في السنة كذلك. وقد عرفنا أن المباح - وهو خاصة أمور العادات - لا ينبغي أن يعتقد مستحبا، لأنه حينئذ ينسب إلى المحبوب في الشريعة ما ليس منها. لذلك أنكره مالك حين عُدَّ مكرمة وأدبا، وهو عنده مباح في الأصل (٢)، إذ لو كان أدبا لكان أولى به نبي الله وأصحابه. وكل عادة تجعل من مكارم الأخلاق المطردة تخالف العمل الأول فإن فيها مفسدة باطنة لزوما كالذي يرى أن غسل اليدين عند كل طعام أدب ومكرمة، حتى إذا عرف أن النبي لم يلتزمها وأصحابه سبق إلى نفسه أنهم لم يكونوا على ما ينبغي من المحاسن! وهو بذرة نفاق (٣). لذلك لم تخلُ بدعة من سموم قد انطوت عليها ..


(١) - وقد جرى هذا الفرق في فتاويهم كما روى عبد الرزاق [١٧٠٤٥] عن معمر عن الزهري قال: من شرب في رمضان فإن كان ابتدع دينا غير الإسلام استتيب وإن كان فاسقا من الفساق جلد ونكل وطوف وسمع به، والذي يترك الصلاة مثل ذلك اه ففرق في العمل الواحد بين كونه معصية و انقلابه بدعة حين اعتقد دينا.
(٢) - الموافقات المسألة السابعة من مباحث البيان والإجمال.
(٣) - قال ابن تيمية [اقتضاء الصراط المستقيم ٥٧] في مفاسد اتباع عادات الكافرين: " .. فإذًا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورنا حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم، قد يكون مضرا بآخرتنا أو بما هو أهم منه من أمر دنيانا فالمخالفة فيه صلاح لنا" الخ. هكذا كثير من الخلق لما انبهروا بالروم وما هم عليه من إتقان أمور دنياهم اعتقدوا فيها الكمال والتفوق فتنكروا لما كان عليه النبي وأصحابه، ووجدوا في أنفسهم أنهم أمة وحشية غير نظيفة .. !! عياذا بالله.

<<  <   >  >>