الرجل سن لهم ذلك الخير، أي سبقهم إليه وسهله لهم، من غير أن يكون ابتدع شيئا لا يُعرف، وإنما ابتدأ الطاعة وسن الامتثال في ذلك إذ هو أول من عمل. وهذا النظر أظهر عند من يقول بعموم اللفظ المشترك وهو الذي يرويه عن الشافعي رحمة الله عليه أصحابُه، أي يحمل على الحقيقة الشرعية في العبادة وعلى اللغوية في العادة معا على طريقتهم.
- الثالثة: أن الحديث متشابه مشكل على الأدلة والأصول على فرض الإشكال، فالمنهج المهيع أن يرد المتشابه إلى المحكم يفسر به. وقد عرفت أن من المتشابه ما ظُن أنه محكم كبعض العمومات أو الإطلاقات التي يراد منها غير ما فهم منها الآخِرون، فكذلك نقول في حديث جرير:" من سن في الإسلام سنة حسنة " يفسَّر بالمحكمات، فيكون معناه: من سن العمل امتثالا لا اختراعا، وإنما يمتثل ما أمر باتباعه كالصدقة، لا ما أمر باجتنابه كالبدع، وإنما تنسب إليه لأجل تعلق التبع بعمله أي تأسي الناس به فصار فيه متبوعا.
- الرابعة: أن عادة كثير من الأصوليين إذا تعارض في الظاهر عمومان وكان لأحدهما سبب ورود فإنهم يحملونه على خصوص سببه، والشأن نفسه هنا على فرض التعارض.
- الخامسة: أن قوله ﷺ بعده "ومن سن في الإسلام سنة سيئة " عموم يشمل البدع، فإن زعموا في الشطر الأول أنه عام يشمل إحداث بدعة في الدين، فإنا نزعم أن الثاني عام في ذم كل بدعة! فبأي العمومين يأخذون؟ لكن الحق ألا تعارض في كلام نبي الله ﷺ، إذ ندب الصحابة إلى سن السنن الحسنة فعملوا بها على الوجه المراد وهو تعليم السنن، والقضاء في النوازل. وبالله التوفيق.
- السادس والأربعون: أن من جعل الحديث: " كل بدعة ضلالة " مرادا به الخصوص أراد أن النبي ﷺ قصد أن يقول: كل بدعة نهيتكم عنها ضلالة، أو كل بدعة مخالِفة ضلالة على تقديرين لهم! وهذا خطأ بيِّن من وجوه، تقدم بعضها في وجه تنقيح المناط وهذه وجوه مشتركة:
* أن تلك الدعوى لا تتم إلا بتقدير محذوف، والأصل عدم التقدير.