للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ في الغَزْوِ

مالك، عن يحيى بن سعيد، أنَّ أبا بكر الصديق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع من تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب وإما إن أنزل، فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إني أحتسي خطاي هذه في سبيل الله.

خروج أبي بكر يمشي مع الجيش لقصد تشييع الجيش تأنيسًا لهم، وإظهارًا لكرامتهم عنده، وليشاهد الجيشَ حين شروعه في السفر، فيرى هل ينقصه شيءٌ يحتاجون فيه إلى إعانة الخليفة أو إذنه لهم بشيء؛ فإنَّ حاجة المسافر والغازي تظهر عد شروعه في العمل؛ فإذا نسي شيئًا أو فرَّط في بعض العُدَّة ذكره حينئذ. فقول يزيد بن أبي سفيان لأبي بكر الصديق: «إمَّا أن تركب، وإما أن أنزل» أدب مع الخليفة؛ إذ رأى ركوبه مع مشي الخليفة جَفاء بحسب ما يَتراءى للناس في العُرف، وقول أبي بكر له: «ما أنت بنازل»، إذن له بالدوام على الركوب؛ لأنَّ نزوله لا فائدة فيه لأبي بكر، ولا ليزيدَ، فكان أبو بكر ناظرًا للحقيقة والفطرة دافعًا للأوهام عارفًا بحكمة الإسلام. ورَّبما حمل ذلك كل راكب في الجيش على النزول تأسيًا بأميرهم، فيختل نظام السير الذي يريد أبو بكر أن يرى نظامه وتمام أهبته؛ ولأنَّ ركوب الأمير لمَّا كان من شؤون سير الجيوش، كان يزيدُ حينئذ متلبسًا بشأنٍ من شؤون الغزو، فلا يطلبه لأنَّه من القربة؛ ولذلك لما قال أبو بكر: «ما أنتَ بنازل» لم يبيِّن له وجه منعه من النزول كأن يقول له: لا داعي إلى نزولك؛ ولأنَّ في توجيه مشي أبي بكر ما يفيد عدم الحاجة إلى نزول يزيد. وقول أبي بكر الصديق: «وما أنا براكب إنِّي احتسب خطايَ هذه في سبيل الله» بينٌ لوجه عدم ركوبه؛ لأنَّه خرج بينه تأنيس الغزاة وكرامتهم بخُطُوات لا تتبعه فلا فائدة في ركوبه. وفي مشيه راجلاً معهم تغلغل في وسط الجيش يَعلم به أحوالهم، وتطويلٌ لمدَّة تشييعهم أكثر ممَّا لو ركب، وليكون فيه تواضع دفع به عن نفسه الكريمة خيلاء ركوب الخيل، فمن ثّمَّ تمَّ الاحتساب في سبيل الله. وليس مجرَّد المشي وراء الغزاة بعض هذه المقاصد بحسبه.

<<  <   >  >>