للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأثم ما تكون بيانًا إذا لم تبن".

وقد وجد عبد القاهر الجرجاني بحسه الأدبي، وذوقه البلاغي، وتتبعه لأساليب الغرب الفصحاء أن أحوالًا أربعة تطلبت منهم حذف المبتدأ.

الأولى: إذا ذكروا الديار والمنازل، فإنهم يضمرون المبتدأ وكأنهم بذلك إنما يعتمدون على أن المقام قد دعا إلى هذا الحذف وألح عليه، وذلك لأن ذكر الديار والمنازل مما يثير في النفوس ذكريات محببة إليها، فيزداد تعلقها بهذه الأماكن ونمتلئ بأسمائها، فتكون مائلة أمامها، وكأنها مذكورة غير محذوفة.

ومن ذلك ما ذكره عبد القاهر لصاحب الكتاب:

اعتاد قلبك من ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكفونة الطلل

ربع قواه، أذاع المعصرات به ... وكل حيران سار ماؤه خضل

فواه: لا أنيس به، وأذاع بمتاعه: ذهب به، والمعصرات: السحاب، والحيران. الساري. وهو المزن، والخضل: الكثير، والمراد: أن السحاب أنزلت ماءها بكثرة حتى ذهبت به وطمسته، وكذلك المزن الكثير الماء.

قال: أراد: ذاك ربع قواه، أو هو ربع.

فالشاعر قد اعتاده ذكر صاحبته ليلى، وقد حرك أشجانه، وأثار لو أهج قلبه ذلك الطلل الباقي من ديارها، وأراد أن يتحدث عن هذا الطلل، وأن يسند إليه قوله ربع قواه، فلم يشأ أن يعيد ذكره، لأنه ملء سمعه وبصره، وكأنه ماثل أمامه، مذكور لديه.

ومما ذكره لصاحب الكتاب أيضًا: قول عمر بن أبي ربيعة:

هل تعرف اليوم رسم الدار والطللا؟ ... كما عرفت بجفن الصيقل الخللا؟

<<  <   >  >>