وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فيروقه هذا الكلام ويأخذ بمجامعه، فيقول للخنساء لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، ويسمع حسان ذلك فتأخذه الغيرة ويذهب الغضب بتجلده، فيقول للنابغة:"أنا - والله - أشعر منها، ومنك، ومن أبيك: فيقبل عليه أبو إمامة، فيسأله: "حيث تقول ماذا؟ فيقول: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر، يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالا، وأكرم بنا ابنما
فيقبل عليه النابغة، فيقول له:"إنك شاعر، ولكنك أقللت حنانك، وسيوفك، وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت: "يبرقن بالدجى" لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف في الليل أكثر، وقلت: "يقطرن من نجدة دماً" ولو قلت: "يجرين" لكان أكثر لأنصاب الدم.
كما أنهم قد رووا - أن النابغة قدم المدينة فدخل السوق، فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبته، ثم اعتمد على عصاه، ثم قال: ألا رجل ينشد؟ فتقدم إليه قيس بن الخطيم فجلس بين يديه وأنشده:
أتعرف رسماً كاطراد المذهب؟
فلم يزد على نصف بيت حتى قال له: أنت أشعر الناس يا ابن أخي!
هكذا حدثنا الرواة، وليس يعنينا أن تصدق هذه الروايات أو تكذب، لأن لها على أية حال دلالة صادقة على ما نريد أن نقوله هنا، وهو أن للعلماء الذين رووا شعر الجاهليين، كانوا يعرفون للعرب في جاهليتهم بصراً