للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد عرض الفرزدق بغباوة هشام بن عبد الملك بتكراره المسند إليه معرفا باسم الإشارة في الأبيات الثلاثة الأولى إذ قال: (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته) (هذا ابن خير عباد الله كلهم) (هذا التقى النقي الطاهر العلم) (هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله)، فكأن هشاماً غبي لا يفهم إلا المحسوسات التي يشار إليها بالبنان، ولهذا فإنه قد عرف المسند إليه باسم الإشارة (هذا) ولم يكتف بهذا، ولكنه كرر اسم الإشارة، لينبه إلى أن غباوة هشام قد زادت حتى أصبح لا يفهم المحسوسات التي يشار إليها إلا إذا تأكدت بالتكرار.

وتأمل المجاز العقلي في قوله: "تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم، تجد أن معرفه علي بن الحسين قد زادت حتى شملت الأماكن، فعرفته هي الأخرى، فكيف يجهله هشام بن عبد الملك؟ .

ثم تأمل هذا العدد الهائل من أسماء الإشارة في قوله: "مكارم هذا" "لأوليه هذا" (أولية ذا) "من بيت هذا" فإنك تشتم منه رائحة السخرية اللاذعة التي فاضت بها شاعرية الفرزدق دون شعور من القارئ بملل، لأن كل إشارة منها قد وقعت في موقعها فزادت من قوة الأسلوب، وأبانت مقدرة الشاعر على رياضة التراكيب، والأخذ بعنان الكلام في توجيه الأساليب.

وقد أسلفنا لك: أن القاضي الجرجاني قد عاب على أبي الطيب المتنبي كثرة استعماله "لذا" التي هي للإشارة بدون هاء التنبيه، لأنها - على حد تعبيره - ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلف، غير أنه عاد فقال: وربما وافقت موضعا يليق بها فاكتست قبولا.

ولعلك قد لاحظت معي أن الشاعر هنا لم يستعمل (ذا) مجردة إلا في موضع واحد هو قوله:

<<  <   >  >>