وَكُنْتُ أَخْبِزُ لَهُ فَمَا نَخَلْتُ لَهُ دَقِيقًا قَطُّ إِلَّا أَغْضَبَهُ، وَكَانَ يَقُولُ لِي: اشتَرِ لِي شَعِيرًا أَسوَدَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الكَنِيفِ، وَلا تَشْتَرِ لِي إِلَّا مَا يَكفِيْنِي يَوْمًا بِيَوْمٍ.
وَأَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى وَلَا أَرْجِعَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَاشْتَرَيْتُ لَهُ عِدْلَ شَعِيرٍ أَبْيَضَ جَيِّدًا؛ فَنَقَّيْتُهُ وَطَحَنْتُهُ؛ ثمَّ أَتَيْتُهُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى فَأَغِيبَ فِيهِ، وَاشْتَرَيْتُ لَكَ هَذَا الطَّعَامَ لِتَأْكُلَ مِنْهُ حَتَّى أَرْجِعَ، فَقَالَ لِي: نَقَّيْتَهُ لِي وَجَوَّدْتَهُ لِي؟ ! قُلْتُ: نَعَمْ. فتغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَنَوَّقْتَ فِيهِ، فَأَطْعِمْهُ نَفْسَكَ، لَعَلَّ لَكَ عِنْدَ اللهِ أَعْمَالًا تَحتَمِلُ أَنْ تُطْعِمَ نَفْسَكَ النَّقِيَّ، وَأَمَّا أَنَا، فَقَدْ سِرْتُ فِي الأَرْضِ، وَدُرْتُ فِيْهَا، فَبِالله مَا رَأَيْتُ نَفْسًا تُصلِّي أَشَرَّ عِنْدِي مِنْ نَفْسِي، فَبِمَا أَحتَجُّ عِنْدَ الله إِنْ أَطعَمتُهَا النَّقِيَّ؟ ! خُذْ هَذَا الطَّعَامَ، وَاشتَرِ لِي كُل يَوْمٍ بِقِطعَةٍ شَعِيْرًا رَدِيْئًا، إِنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى الْكَنِيفِ!
ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكُمْ: أَنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْكَنِيْفَ؟ ! لَا أَعْلَمُ فِيكُمْ مَنْ يُبْصِرُ بِقَلْبِهِ، لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا كَانَ يَبِيعُ بَيْعًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ بِدَرَاهِمَ، فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْ جَيِّدِ بَيْعِكَ، فَإِنِّي أُرِيدُهُ لَلْكَنِيف، تَضْحَكُونَ مِنْهُ وَتَقُولُونَ: هَذَا مَجْنُونٌ؛ فَكَيْفَ لَا تَضْحَكُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمُ، احْفِرُوا حَفْرًا وَاجْعَلُوا فِيهَا مَاءً وَطَعَامًا وَانْظُرُوا هَلْ يَنْتِنُ فِي شَهْرٍ، وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَهُ فِي بُطُونِكُمْ فَيَنْتَنُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَالْكَنِيفُ هُوَ الْبَطْنُ.
ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ وَاشتَرِ لِي رَحى، فَجِئْنِي بِهِ حَتَّى أَطحَنَ بِيَدِي وَآكُلَهُ، لَعَلِّي أَبلُغُ مَا كَانَ فِيهِ عَليٌّ وَفَاطِمَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -. إِنَّهُ كَانَ يَطْحَنُ بِيَدِهِ.
وَوُلدَ لَهُ ابْنٌ، فَدَفَعَ إِلَيَّ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشتَرِ كَبْشَيْنِ عَظِيْمَينِ، وَغَالِ بِهِمَا، وَاشتَرِ بِعَشَرَةٍ دَقِيْقًا، وَاخْبِزْهُ، فَفَعَلتُ، وَنَخَلتُهُ، فَأَعطَانِي عَشَرَةً أُخَرَ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِهِ دَقِيْقًا، وَلا تَنْخُلْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ العَقِيقَةَ سُنَّةٌ، وَنَخْلُ الدَّقِيقِ بِدْعَةٌ، وَلا يَنْبَغِي أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute