وَكَذَلِكَ أَراد لَبِيدٌ أَن يُصرِّح بِذِكْرِ الْيَمِينِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَراد بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الكُتُبَ المُتَقَدِّمة، يَعْنُونَ لَا نُؤمن بِمَا أَتى بِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا بِمَا أَتَى بِهِ غيرُه مِنَ الأَنبياء، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ
؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُنْذِرُكُم أَنَّكم إِنْ عَصَيْتُم لَقِيتُم عَذَابًا شَدِيدًا. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ
: قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَلَمْ يُسْلِمُوا؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا يُكَذِّبونهم وَيَرُدُّونَ الْقَوْلَ بأَيديهم إِلى أَفْواهِ الرُّسُلِ، وَهَذَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنه قَالَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ
؛ عَضُّوا عَلَى أَطْرافِ أَصابعهم
؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَهَذَا مِنْ أَحسن مَا قِيلَ فِيهِ، أَراد أَنهم عَضُّوا أَيْدِيَهم حَنَقاً وغَيْظاً؛ وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَرُدُّونَ فِي فِيهِ عَشْرَ الحَسُود
يَعْنِي أَنهم يَغِيظُون الحَسُودَ حَتَّى يَعَضَّ عَلَى أَصابِعه؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الْهُذَلِيُّ:
قَدَ افْنَى أَنامِلَه أَزْمُه، ... فأَمْسَى يَعَضُّ عَليَّ الوَظِيفا
يَقُولُ: أَكل أَصابِعَه حَتَّى أَفْناها بالعَضِّ فصارَ يَعَضُّ وَظِيفَ الذِّرَاعِ. قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَاعْتِبَارُ هَذَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ يأْجُوجَ ومأْجُوجَ:
قَدْ أَخْرَجْتُ عِباداً لِي لَا يَدانِ لأَحَدٍ بِقِتالِهمْ
أَي لَا قُدْرَةَ وَلَا طاقَة. يُقَالُ: مَا لِي بِهَذَا الأَمر يَدٌ وَلَا يَدانِ لأَن المُباشَرةَ والدِّفاعَ إِنما يَكُونَانِ باليَدِ، فكأَنَّ يَدَيْهِ مَعْدُومَتانِ لِعَجْزِهِ عَنْ دَفْعِه. ابْنُ سِيدَهْ: وَقَوْلُهُمْ لَا يَدَيْنِ لَكَ بها، معناه لا قُوّة لَكَ بِهَا، لَمْ يَحْكِهِ سِيبَوَيْهِ إِلا مُثنى؛ وَمَعْنَى التَّثْنِيَةِ هُنَا الْجَمْعُ وَالتَّكْثِيرُ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
فكُلُّ رَفِيقَي كُلّ رَحْلٍ
قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَن تَكُونَ الْجَارِحَةُ هُنَا لأَن الْبَاءَ لَا تَتَعَلَّقُ إِلا بِفِعْلٍ أَو مَصْدَرٍ. وَيُقَالُ: اليَدُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَي الأَمْرُ النافِذُ والقَهْرُ والغَلَبةُ، كَمَا تَقُولُ: الرِّيحُ لِفُلَانٍ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
؛ قِيلَ: مَعْنَاهُ عَنْ ذُلٍّ وَعَنِ اعْتِرافٍ لِلْمُسْلِمِينَ بأَن أَيْدِيَهم فَوْقَ أَيْدِيهم، وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ أَي عَنْ إِنْعام عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لأَنَّ قَبول الجِزْية وتَرْكَ أَنْفُسهم عَلَيْهِمْ نِعمةٌ عَلَيْهِمْ ويَدٌ مِنَ الْمَعْرُوفِ جَزِيلة، وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ أَي عَنْ قَهْرٍ وذُلٍّ واسْتِسْلام، كَمَا تَقُولُ: اليَدُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ أَي الأَمرُ النافِذُ لفُلان. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَزِّيُّ عَنْ يَدٍ
قَالَ: نَقْداً عَنْ ظَهْرِ يَدٍ لَيْسَ بنسِيئة. وَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: كلُّ مَن أَطاعَ لِمَنْ قَهَرَهُ فأَعطاها عَنْ غَيْرِ طيبةِ نَفْسٍ فَقَدْ أَعطاها عَنْ يَدٍ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ يَدٍ
قَالَ: يَمْشُونَ بِهَا، وَقَالَ أَبو عُبَيْدٍ: لَا يَجِيئون بِهَا رُكباناً وَلَا يُرْسِلُون بِهَا. وَفِي حَدِيثِ
سَلْمانَ: وأَعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ
، إِنْ أُرِيد باليدِ يَدُ المُعْطِي فَالْمَعْنَى عَنْ يَدٍ مُواتِيةٍ مُطِيعة غَيْرَ مُمْتَنِعة، لأَن مَنْ أَبى وَامْتَنَعَ لَمْ يُعطِ يَدَه، وإِن أُريد بِهَا يَدُ الْآخِذِ فَالْمَعْنَى عَنْ يَد قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ أَو عَنْ إِنعام عَلَيْهِمْ، لأَنَّ قَبُولَ الجِزْيةِ مِنْهُمْ وَتَرْكَ أَرْواحِهم لَهُمْ نِعْمةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها
؛ هَا هَذِهِ تَعُود عَلَى هَذِهِ الأُمَّة الَّتِي مُسِخَت، وَيَجُوزُ أَن تَكُونَ الفَعْلة، وَمَعْنَى لِما بَيْنَ يَدَيْها
يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: يَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ لِما بَيْنَ يَدَيْها
للأُمم الَّتِي بَرَأَها وَما خَلْفَها