الغم والألم، ورفعنا الأصوات بالتلبية، وأخلصنا العمل لله والنية، وما حصل لنا من السرور بهذا الإحرام لا يمكن شرحه بالأقلام.
وفي هذه الحالة لما قربنا من "جدة"، قرب المركب ليلاً إلى جبل في الماء، فاضطرب المعلم له اضطرباً شديداً، وربط أشرع السفينة بالأدقال، وخفت منه الأثقال، وعمل كل تدبير خطر له بالبال، وأرسى المركب في محله في الحال.
وأنزل الملاحون أقرب المركب لدرك حقيقة الحال، وسعوا إلى جوانبه، وعلموا أن المركب لو سار قليلاً، لتصادم بالجبال، فمضى هذا الليل للركاب، في غاية الاضطراب، وتمت تلك الليلة بالاستغفار وإخلاص النية والتوبة، وكلمة الشهادة على الألسن، وسلموا أنفسهم للموت، ولم يكن هذا الليل أقل من يوم القيامة، ولكن رحم الله علينا بالسلامة حتى طلع الفجر، وشاهدنا ذاك الجبل في ضوء النهار.
ومن العجائب التي لا ينبغي إخفاؤها: أن الملاحين إذا ترددوا في أمر المركب من جمود الريح أو هبوبها مخالفة أو شيئاً من الخوف على السفينة وأهلها، كانوا يهتفون باسم الشيخ عيدروس وغيره من المخلوقين، مستغيثين ومستعينين به، ولم يكونوا يذكرون الله -عز وجل- أبداً، أو يدعوه بأسمائه الحسنى، وكنت إذا سمعتهم ينادون غير الله، ويستعينون بالأولياء، خفت على أهل المركب خوفاً عظيماً من الهلاك.
وقلت في نفسي: يا لله العجب! كيف يصل هذا المركب بأهله إلى ساحل السلامة! فإن مشركي العرب قد كانوا لا يذكرون آلهتهم الباطلة في مثل هذا المقام، بل يدعون الله تعالى وحده غيرَ مشركين به، كما حكى عنهم سبحانه في محكم كتابه المبين:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[العنكبوت: ٦٥]، وهؤلاء القوم الذين يسمون أنفسهم المسلمين يدعون غيرَ الله، ويهتفون بأسماء المخلوقين، ولقد صدق الله تعالى فيما قال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف: ١٠٦].
ولكن لما كانت رحمة الله سبقت غضبه، أوصل أرحمُ الراحمين المركب