للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عقل، ولقد متنا ألف مرة من خوف الموت وارتقابه في هذه الليلة التي لم تغمض فيها في بغداد كلها عين، وتجرعنا غصص الرعب ألف مرة قبل أن يطلع الصبح وتعلن الإذاعة أن الجند والناس الذين سيقوا جميعاً من الطرقات والبيوت إلى العمل قد استطاعوا كسر النهر من الشمال وإنقاذ بغداد.

وعادت الجرائد تنذر وتحذر، وتدعو وتنادي، وفهمت لماذا تدعو الجرائد، وظننت أنه لن يمر شهر حتى تكون الحكومة قد تيقظت واعتبرت وأنشأت لدجلة سدوداً فنية تقيها الغرق، لا أكواماً من التراب.

ومرت أربع عشرة سنة، وحسبت كل شيء قد كان، وإذا أنا أقرأ أمس خبر فواجع الماء في بغداد ...

فهل اعتبرت الآن حكومة بغداد وتيقظت؟ لا أظن! لأن هذه هي طبيعة حكوماتنا جميعاً؛ لا تفيق إلا بعد خراب البصرة كلها، وبعد غرق بغداد، وبعد ذهاب ما تبقى من فلسين إلى أيدي اليهود ... يومئذ تفيق، لا لتعمل وتستعد وتتدارك ما فات، بل لتجتمع اجتماعات جديدة، تلقى فيها الخطب، وتساق التهم، وتتبادل الشتائم، ثم تؤجل لاجتماع آخر، في يوم آخر، يبحث فيه المسؤولون عما كان ثم لا يعرف من المسؤول!

فيا بغداد، يا بلدي الحبيب بعد بلدي دمشق، يا أيتها المدينة التي خلفت فيها قطعاً من قلبي، وعمراً من حياتي، لك الله ... لك الله يا بغداد! ولنا الله؛ فإنها إن بقيت كذلك تسير سفينة العرب في لج الحياة، وإن لم يتداركنا الله بأيد جديدة توجه هذه السفينة، فلن تغرق بغداد وحدها بالماء، بل ستغرق دنيا العرب كلها بالإفلاس والأمراض والفوضى، وإسرائيل، والذين رمونا بإسرائيل.

***

<<  <   >  >>