أقمت في بغداد سنين، أرى كل يوم وجه دجلة الباسم؛ في الصباح وأنا غاد إلى المدرسة، وفي المساء وأنا رائح من النزهة، وأجوز الجسر؛ جسر بغداد الذي كان يوماً سرة الأرض وكبد الدنيا، وأركب الزوارق أمشي مع النهر الذي ساير الزمان ووعى سير الدهور، فلا أنكر من دجلة شيئاً، وأعجب مما تطلع به الجرائد علينا كل غداة تحذر وتنذر وتدعو إلى تقوية السدود، وأرى ذلك من تهويلات الصحف.
وهذه السدود ليست إلا أكواماً من التراب على الشاطئين تمنع الماء أن يطغى على الجانبين ويغمر بغداد وهي منخفضة عن وجه الماء.
حتى كانت ليلة الذعر التي مر عليها أربع عشر سنة ولا أزال -كلما تذكرتها- أرتجف من ذكراها (١). ليلة بتنا على شفا القبر، نرقب الموت في كل لحظة، قد لبسنا ثيابنا وحملنا ما خف وغلا بأيدينا وقعدنا متحفزين: أذناً إلى الراد نسمع الإذاعة (الماء يرتفع، بقي دون الخطر خمسة سنتيمات) وأذناً إلى الطريق نصغي نرقب صفارة الإنذار. وكنت يومئذ أسكن في الأعظمية في دار واحدة مع الإخوان أنور العطار وكامل عياد وحيدر الركابي وصالح
(١) كان ذلك سنة ١٩٣٦، ولقد شهدتُ فيما بعد (في سنة ١٩٥٣) أكبر فيضان وآخره. وقد أمنت بغداد الآن من خطر الفيضان.