إن من صور الماضي صوراً تستقر في النفس، وتنطبع في الذاكرة، حتى لا تمحوها الأيام، ولا يصل إليها النسيان. ومن الصور التي لست أنساها، أني كنت يوماً نازلاً في الترام إلى المدرسة، فرأيت أستاذنا المسيو صالح الجزائري رحمه الله، ينزل ماشياً مرفوع الرأس بارز الصدر، فامتلأ قلبي هيبة له وغبطة وإكباراً، وأحسست أنه يعظم في عيني حتى يملأ عليها رحاب الأماني؛ فلا أجد أمنية لي في الحياة أكبر من أن أكون أستاذاً في التجهيز.
ثم كرت الأيام وكبرنا، وصرنا ننظر إلى الدنيا بعيون الشباب لا بأبصار الأولاد، فنرى في البلد ميزاناً للرجال، ونرى لهم أقداراً ومراتب، تتسلسل كأنها صف الناس أمام باب الدائرة الحكومية؛ لا يسبق أحد دوره، ولا يقفز من فوق رأس الذي أمامه، ولا يدع الباب ويدخل من الشباك. يبدأ الموظف حياته موظفاً صغيراً، ثم يكبر كلما كبر عمله وكبرت تجربته حتى يصير رئيساً أو مديراً، أما الوزارة فكانت لأركان البلد، وبَواقع الرجال، وأهل الحل والعقد، وأصحاب التجربة والعلم والسن. ولا يُسلم وزير وزارة لا خبرة له بشؤونها ولا معرفة بخفاياها. وكان المعلم لدرسه والموظف لديوان، والتاجر لدكانه، والطبيب لعيادته. وكان للسياسة أهلها الذين انقطعوا إليها وبرعوا فيها وارتضتهم الأمة نائبين عنها ناطقين بلسانها.