يَصِيرُ لَهُ فِي الْمُحَاصَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَرَضًا جَازَ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَحْسِبَ الثَّمَنَ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَلَا يَأْخُذُ الْعَرَضَ يَتَمَلَّكُهُ عِوَضَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إلْزَامٌ لِلْمَانِعِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يُعَوَّضَ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَسَامَحَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا لِلضَّرُورَةِ قَالَ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ إنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ رَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي كَلَّفَهُ إثْبَاتَ دَيْنِهِ؟ اخْتَارَ بَعْضُ أَشْيَاخِي هَذَا وَيَبِيعُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا. ابْنُ يُونُسَ: وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ مَا يَنُوبُهُ وَإِنْ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ الدُّخُولُ مَعَهُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ لَوْ أَظْهَرَ ذَلِكَ، فَمَتَى لَمْ يَضُرَّ بِالْغُرَمَاءِ بِأَخْذِ مَا يَنُوبُهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
قَالَ بَعْضُ فُقَهَائِنَا: فَإِنْ حُلِّفَ فَحَلَفَ مَا ضَرَّهُ ذَلِكَ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَخْذِ مَالِهِ فَيَحْلِفُ وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ اللَّخْمِيِّ: قَالَ مَالِكٌ: إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ إذَا أَمَرَ أَنْ يُحَلِّفَهُ كَاذِبًا يُرِيدُ أَنَّ الْمُودِعَ يَقُولُ لَهُ احْلِفْ لِي أَنِّي مَا أَوْدَعْتُكَ. وَقِيلَ: يَحْلِفُ مَا أَوْدَعْتنِي شَيْئًا يَنْوِي يَلْزَمُنِي رَدُّهُ. وَقِيلَ يَنْوِي مِثْلَهُ أَنْ يُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْحَدَ مَا أَوْدَعَهُ مَكَانَ حَقِّهِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} [النحل: ١٢٦] الْآيَةَ. وَلِحَدِيثِ هِنْدٍ " خُذِي مِنْ مَالِهِ ". وَقِيلَ: مَعْنَى: «وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» أَنْ تَأْخُذَ فَوْقَ حَقِّكَ انْتَهَى.
وَقَدْ نَقَلْت مِنْ كَلَامِ كُلِّ إمَامٍ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْفَرْعِ. وَحَاصِلُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ يُونُسَ وَابْنِ رُشْدٍ وَالْمَازِرِيِّ تَرْجِيحُ الْأَخْذِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْحَجْرِ مِنْ حَبْسِ وَدِيعَةِ الظَّالِمِ وَقَدْ نَصُّوا فِي الْوَصِيِّ إذَا عَلِمَ بِالدَّيْنِ دُونَ غَيْرِهِ أَنَّهُ إنْ خَفِيَ لَهُ دَفْعُهُ دُونَ مُغَلِّبٍ فَعَلَ وَإِلَّا كَانَ شَاهِدًا. وَمِنْ ابْنِ يُونُسَ قَالَ مَالِكٌ فِي مَيِّتٍ أَوْصَى لِصَغِيرٍ بِدَنَانِيرَ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الْوَصِيُّ، فَإِنْ خَفِيَ لَهُ دَفْعُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُتْبَعُ بِهِ فَلَهُ دَفْعُ ذَلِكَ دُونَ السُّلْطَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ السُّلْطَانُ ثُمَّ خَفِيَ لَهُ دَفْعُ ذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ كُنْت أَفْتَيْت زَمَنَ الْقَائِدِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ السِّرَاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَأْخُذَ الْمُجَاهِدُ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَدْرَ حَقِّهِ لِقِلَّةِ الِاهْتِبَالِ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ وَقَسْمِهَا، وَمَا كَانَ أَحَدٌ وَقَفَنِي عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ وَجَدْت النَّصَّ بِمَا أَفْتَيْتُ بِهِ فِي نَوَازِلِ الْبُرْزُلِيُّ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مُسْتَنَدِي مَعَ مَا تَقَدَّمَ مَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ أَجَازَ مَالِكًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَقِيلَ لِمَالِكٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ تَأْخُذُهَا مِنْ هَذَا كَأَنَّهُ يَسْتَكْثِرُهَا؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ مِقْدَارَ مَا لَوْ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ فَأَنْصَفَ أَهْلَ الْمُرُوءَةِ أَصَابَهُ سَيْبُهُ بِذَلِكَ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا. وَسَأَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ جَائِزَةِ السُّلْطَانِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَأْخُذْهَا. فَقَالَ لَهُ: لَا بَلْ نَقْبَلُهَا.
فَقَالَ مَالِكٌ: أَتُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ انْتَهَى.
وَانْظُرْ قَوْلَ مَالِكٍ هَذَا إنَّمَا هُوَ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْفِقْهِ لِمِثْلِ هَذَا السَّائِلِ مُوحِشٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ حِينَ مَنَعَ مِنْ قَبَالَةِ مِصْرَ وَقِيلَ لَهُ أَشْهَبُ يَقْبَلُهَا فَقَالَ لِلرَّجُلِ: قُمْ أَنْتَ بِبَعْضِ مَا يَقُومُ أَشْهَبُ وَحِينَئِذٍ خُذْ مَا يَأْخُذُ أَشْهَبُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ. وَكَمَا حَكَى عَنْ زِيَادَةِ اللَّهِ عَامِلِ إفْرِيقِيَّةَ أَنَّهُ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ الْجَائِزَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا، فَاسْتَنْقَصَ زِيَادَةُ اللَّهِ كُلَّ مَنْ قَبِلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَسَدَ بْنَ الْفُرَاتِ وَكَانَ مِمَّنْ قَبِلَ فَقَالَ: لَا عَلَيْهِ إنَّمَا أَوْصَلَنَا إلَى بَعْضِ حَقِّنَا وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ فِيمَا يُمْسِكُهُ عَنَّا.
وَقَدْ نَصُّوا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسُ مَالًا لِيُرَتِّبُوا مِنْهُ الْجُنْدَ وَحَمَلَةَ الْعِلْمِ أَعْنِي عِلْمَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ الَّذِي سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ أَهُوَ فَرْضٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا عَلَى كُلِّ النَّاسِ فَلَا. قَالُوا: وَاَلَّذِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute