الْأَبَوَيْنِ: فَتَهْوِيدُهُمَا، وَتَنْصِيرُهُمَا، وَتَمْجِيسُهُمَا، هُوَ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ مُسْلِمًا، وَيُولَدُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ قَدْ يُغَيِّرُهَا الْأَبَوَانِ كَمَا قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَكَتَبَهُ، كَمَا مَثَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " «كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهِمَا مِنْ جَدْعَاءَ» ".
فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُولَدُ سَلِيمَةً، ثُمَّ يَجْدَعُهَا النَّاسُ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ مُسْلِمًا، ثُمَّ يُفْسِدُهُ أَبَوَاهُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: وُلِدَ عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَدَرِيَّةَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ، بَلْ بِمَا فَعَلَهُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَكُفْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنَّ الْقَدَرِيَّةَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ.
قَالَ: احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» " فَبَيَّنَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْأَبَوَيْنِ خَلَقَا تَهْوِيدَهُ وَتَنْصِيرَهُ، وَالْقَدَرِيَّةُ لَا تَقُولُ ذَلِكَ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ سَبَبًا فِي حُصُولِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ، وَالتَّلْقِينِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْقَدَرِ السَّابِقِ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْكِتَابِ، وَالْمَشِيئَةِ، بَلْ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا، وَكِتَابَةً، وَمَشِيئَةً، وَإِلَى الْأَبَوَيْنِ تَسَبُّبًا، وَتَعْلِيمًا، وَتَلْقِيَنًا، وَإِلَى الشَّيْطَانِ تَزْيِينًا، وَوَسْوَسَةً، وَإِلَى الْعَبْدِ رِضًا، وَاخْتِيَارًا، وَمَحَبَّةً.
وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّ الْغُلَامَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute