[أنواع الفرار إلى الله عز وجل]
تكلمنا سابقاً عن أنواع الفرار إلى الله عز وجل، وقلنا: هناك فرار السعداء وفرار الأشقياء، وفرار السعداء هو فرارهم من أنفسهم إلى الله، مثلما فعل الصحابة، ومثلما حصل في قصة أصحاب الكهف، فهذا هو فرار السعداء.
اللهم اجعلنا من الفارين السعداء إليك يا رب.
وفرار الأشقياء فرار من الله والعياذ بالله، فتكون دروس العلم ثقيلة على قلبه، وكذا فعل الخير وصلة الرحم، ونحو هذه الأشياء، فيستثقلها.
وفرار السعداء أنواع: فرار العامة، وفرار الخاصة، وفرار خاصة الخاصة.
أما فرار العامة: فهو فرارنا كلنا، وهو فرارنا من المعصية إلى الطاعة، ومن الذنب إلى التوبة، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الجهل إلى العلم، وهذا الفرار فرض عين، ويجب على كل إنسان أن يفر من حالة الجهل إلى حالة العلم.
وأما فرار الخاصة: فهو فرارهم من علم اليقين إلى عين اليقين، فمثلاً: كلنا يعلم أن الله كريم، ولكن نريد أن يتحول هذا العلم إلى حقيقة كائنة أمام عيني، أرى كرمه علي في الإسلام وفي الصحة وفي الأولاد وفي كل النعم، فأرى كرم الله في كل لحظة بعيني، فأتحول من التطبيق النظري إلى التطبيق العملي، كما كان الصحابة رضي الله عنهم، مثلاً: أنس بن النضر رضي الله عنه كان يقول: أشم رائحة الجنة دون أحد.
فهذا عين يقين؛ لأنه شم رائحة الجنة في الدنيا.
وكلنا يعلم أن للجنة رائحة، وأنها لتشم من مسيرة كذا وكذا، فهذا علم، ولكن نريد أن نحول العلم إلى يقين تام، مثل حال أنس بن النضر عندما شم رائحة الجنة.
وكان بعض الصالحين يشمون رائحة الذنوب، فيقول الحسن البصري: احمدوا ربكم أن ليست للذنوب رائحة، وإلا لما جلس مسلم بجوار مسلم.
فقد ترى رجلاً محترماً يجلس بين الناس، ثم تصعد رائحة ذنوبه مثلاً، وهو يظن أن ليست له رائحة، وقد وضع عليه رائحة عطر ونحوه، ولكن لو كشف عنه غطاؤه لافتضح، نسأل الله السلامة، ونسأله أن يحسن رائحتنا ظاهراً وباطناً آمين.
وأما فرار خاصة الخاصة: فهو الفرار مما سوى الله، أي: من كل شيء إلا الله، ولذلك عندما ينام الإنسان تبدأ الروح تغادر البدن، فتتجول في عالم الملكوت، ويذهب هنا وهنا، ويتجول ويجتمع مع أحبابه وأهله، والذي يأتي ويذهب، والحوادث ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يجد أن الحلم الذي رآه، أو الرؤيا التي رآها قد تحققت؛ لأنها بدأت الروح هكذا، والصحابة والصالحون كانوا في حالة يقظتهم كحالتنا في منامنا، مثل سيدنا عمر بن الخطاب عندما وقف على المنبر وقال: يا سارية! الجبل، فسمعه سارية وهو على بعد مسيرة شهر منه.
كذلك ما جاء عن سيدنا علي أنه قال لمن سأله عطاء: لو زادك الرسول لزدناك.
وكذا أنس بن مالك مر بالسوق فنظر إلى امرأة ثم دخل على عثمان فقال له: أيدخل علي أحدكم وفي عينيه آثار من الزنا؟ وهو لم يكن معه.
ويقال: إن أحد الصالحين كان يصلي وراء أستاذه، فقرأ الأستاذ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:٤٩ - ٥٠]، قال: فخطر ببالي أن معنى (يهب لمن يشاء إناثاً) أي: لمن يشاء حسنات، (ويهب لمن يشاء الذكور) أي: ييسره للأعمال.
(أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً) أي: أعمالاً وحسنات.
(ويجعل من يشاء عقيماً) أي: لا أعمال ولا حسنات.
فعندما فرغت الصلاة نظر الإمام إلي وقال: يا أبو العباس ما أجمل تفسيرك لكتاب الله في الصلاة.
فالمسألة بالنسبة للصالحين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، ما تقارب منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف).
فاللهم اجعل أرواحنا متقاربة، متآلفة، مجموعة في الجنة مع أبداننا يا أرحم الراحمين.
إذاً: فابن آدم خلق من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما.