للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التوكل نوعان]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [التوكل على الله نوعان: أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية].

يعني أنت تتوكل على الله لكي يعطيك من عنده ما تبغي من حوائج الدنيا وما فيها، فتدعو الله وتقول: أنا متوكل عليك يا رب! أن تأخذ بيد أولادي، وأن تهدي زوجتي، وأن تهدي جاري، وأن تجعل زوجة ولدي تحب ولدي وترعاه، وتهدي ابنتي مع زوجها، وأن تجعل زوجها حنوناً عليها، كل هذا توكل على الله.

وعندما يزوج الرجل ابنته يوصي زوجها وحماها، ويقول له: لقد أعطيتك فلذة كبدي فاهتم بها، إنها طيبة وحنونة، ولا تغضبها حتى لا نغضب منك، وكذلك يوصي ابنته ويقول لها: انتبهي لزوجك وأهل زوجك وبيتك.

فهذا نوع من التوكل لكي يقضي لنا الله حوائجنا الدنيوية، والإنسان يعمل الذي يقدر عليه والله هو الذي يتولى الأمور.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين، والجهاد والدعوة إليه].

وللأسف أنا لي عشرون سنة في الدعوة، ولم أجد أحداً من الذين عرفتهم متوكلاً على الله في هذه الناحية.

ولكي أوضحها أكثر لا بد أن أوضح معنى التوكل، وسأضرب لكم مثالاً، لو أنك تعرف شخصاً وتثق به ثقة تامة، وهذا الشخص عندما تطلب منه أن يعمل لك مصلحة أو ينفعك بمنفعة فإنه ينجزها، فعندما نطلب منه قضاء مصلحة أو توصيل أمانة، فنحن ننسى أن نسأله ما إذا كان قد قضى هذه المصلحة أو وصل هذه الأمانة أم لا، لأننا واثقون ومتأكدون أنه سيقضيها، فهذا هو التوكل، لكن عندما أطلب منه عمل مصلحة ما، ثم أظل أسأله كل وقت عما إذا كان قضاها أم لا، فهذا لا يسمى توكلاً.

ولله المثل الأعلى.

فمعنى: أن أتوكل على الله: أن أترك أمري لله وأنساه، لأنني تركته عند من لا ينسى، ولذلك قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:٥٨]؛ لأننا لو توكلنا على بشر فقد يموت، وقد ينسى، وكلاهما موت، فموت الشخص يعني أني فقدت من أثق فيه، ونسيانه موت لموضوعي عنده، فتجد شخصاً يكون له قريب في منصب كبير، فتجده يحتمي بهذا القريب ولا يخشى أحداً، لكن عندما ينزل هذا القريب من منصبه، فلن يكون له ظهر كما كان من قبل.

فالواجب أن نتوكل على من لا يذهب ولا يموت ولا ينسى، فإذا توكل المسلم على الله كفاه.

كان هناك رجل يسرق الأحذية من المساجد، فعندما يختار الحذاء النظيف ليسرقه ويخفيه وراء عباءته، يقول: من توكل على الله كفاه ويذهب، فعندما يسمعه الناس يقول هذه الكلمة لا يشكون فيه أبداً، فعندما أراد أن يخرج من المسجد تعثر في عباءته، فكان الجزاء من جنس القول.

والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣]، أي: يكفيني ربي، فعندما نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: أملنا وكفايتنا هو الله عز وجل، يقول تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤]؛ ولذلك عجبت لمن ابتلي بالخوف من الناس، كيف يغفل عن قول الله عز وجل: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، ألم يقل الله بعدها: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٤].

وللأسف أن أغلب الناس يفهم أن كلمة: (حسبنا الله) نقولها في وجه الشخص عندما نكون مقهورين منه، وهذا خطأ، ولكن عندما تكون خائفاً من شخص أو خائفاً من حدث معين فقل: حسبي الله ونعم الوكيل، أي: الله حسبي، الله معي، ليس لي إلا الله، الله ظهري، الله سندي، الله متولي أمري، وهو الولي سبحانه وتعالى، وهذا من الإسلام، فعندما أقول: أنا مسلم، أي: مسلم أمري لله عز وجل.

فالتوكل الأول خاص بالحوئج الدنيوية، كأن يقول الأطباء عندما يقومون بعملية لشخص: نحن عملنا الذي نقدر عليه، والباقي على الله، وهو كله على الله أولاً وأخيراً.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان، واليقين، والجهاد، والدعوة إليه].

فمثلاً: فلان يصلي ويصوم ويزكي ويعمل الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكنه ينسى أن يتوكل على الله في أن يعينه على الصلاة، ويعينه على قيام الليل، ويعينه على الجهاد في سبيل الله، ويعينه على الحق، ويعينه على الدعوة إلى الله، ويعينه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعينه على الصدقة، ويعينه على الطاعة، ويعينه على الخصال، ويعينه على الدنيا، ويعينه على العيال، وهذا هو التوكل الأهم.

قال: [وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله، فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية].

يعني: أنني لو توكلت على الله في أمر الآخرة، فالله يعطيني الدنيا والآخرة.

قال: [ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً].

أي: أن الله سيعطيني الدنيا وما فيها، لأنه يملك الدنيا والآخرة.

قال: [لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه، فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول].

أي: تجريد التوحيد لله عز وجل ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: [وجهاد أهل الباطل].

وهذا أصعب شيء، وكما نقول دائماً: أصعب شيء هو السباحة ضد التيار، فتجد المجتمع يمشي من الألف إلى الياء، وتجد رجلاً مسلماً على الطريقة الصحيحة يمشي من الياء إلى الألف، فلو كان عندكم من الشفافية أو من مكبرات الصوت الإلهية وتضعونها على قلوب من يرانا ونحن داخلون إلى هذه القاعة، لسمعتم عجباً، وهذا ليس شفافية ولا فراسة ولكن من الواقع واليقين، ومن الرسائل التي تصلني من الناس، إذ يبعثون جوابات يقولون فيها: لقد أفسدت علينا أولادنا، أولادنا أصبحوا يقومون يصلون الفجر في المسجد، ونحن نخاف عليهم أن يحتجزهم رجال الأمن؟!، وبناتنا بعد أن كان شعرها أصفر وأخضر تحجبت، ما هذا الفساد الذي صنعته في أولادنا؟! سبحان الله! أفسدنا أولادهم، اللهم إن كان هذا هو الفساد فاجعلنا من هؤلاء المفسدين، واحشرنا في زمرة هؤلاء المفسدين.

فغير المؤمن عندما يرى المؤمن فإنه يكون حاقداً عليه، لأنه يتمنى أن يكون مثله لكنه لا يعرف كيف يفعل ذلك، فتجد المرأة المؤمنة يتعبها زوجها، وأولادها متعبون، وتجدها باسمة الوجه، لأنها عندها يقين في الله عز وجل، ولذلك آسية امرأة فرعون، عذبها فرعون وشد شعرها شعرة شعرة، وهي تقول: الله! وهو يقول لها: أين الله؟! وبعد ذلك قطع من جسمها أصابعها ويديها ورجليها، وهي لا تمتنع عن قول: لا إله إلا الله، فلما اغتاظ منها قال: اقطعوا لسانها، فقالت: يا رب! لم يبق لي ما يؤنسي مع قلبي في ذكرك إلا لساني، اللهم خذني عندك وابن لي بيتاً في الجنة، ونجني من فرعون وعمله.

فقال العلماء: بينما هم يقطعون لسانها، كان جسمها في الفرش، وروحها في العرش.

فعندما يصل الإنسان إلى هذا المنطلق، يكون كما قال الإمام أحمد بن حنبل: أنتم ترون يد الجلاد، وأنا أرى يد رب العباد.

قال: (وجهاد أهل الباطل) ونحن الآن في زمن كثير فيه أهل الباطل، وقد وصل الأمر إلى هذا.

قال: [فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم، والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء، بحيث لا يجد العبد ملجأً ولا وزراً إلا التوكل].

يعني: ليس له إلا باب التوكل، وسأضرب لكم مثالاً قريباً: لو أن شخصاً أرغم شخصاً عل عمل الخير، فقال له: ما رأيك في أن نزور رجلاً مسكيناً، فيقول له: ولم لا؟ ويخجل أن يقول له: لا، وبعد أن يذهب، يقول له: هذا المريض يريد نقل دم، وهو لا يملك النقود، فالرجل لا يريد أن يدفع شيئاً، فيقول: انظروا إلى فصيلتي، قد تكون مطابقة واسحبوا مني دماً، وهو واثق أن الفصيلة مختلفة، ويفاجأ بأن الفصيلة نفس فصيلة المريض، وهذا من حظه، وهذا كما يقول المثل العامي: (إن جالك الغصب عِدُّه جَمَايل)، فلو أن أحداً أوقعك في خير، فافعله، ولا تعاتبه ولا تتهرب منه، ولكن اعمل الخير وأنت مثاب على ذلك.

فحينما تفعل الخير وأنت مضطر كما يقال: يثاب المرء رغم أنفه، فيأتي إليك الثواب رغم أنفك، تخيل عندما يأخذ الرجل الثواب غصباً عنه، كموظف يجمع مبالغ من الموظفين لموظف مسكين؛ لكي يعمل عملية لزوجته، فيجد بعض الموظفين لا يريدون أن يدفعوا شيئاً، فيقول له: ادفع أي شيء، ويظل يلح عليه حتى يجعله يدفع ربع جنيه، فربما هذا الربع الجنيه يثقل موازينه يوم القيامة، فالمرء يثاب رغم أنفه.

والعبد يجب عليه أن يفرح عندما يضع الله أمامه باباً من أبواب الطاعة دون أن يسير إليها، ولو خير لاختار أن يبتعد، لأن الإنسان شحيح في وقته وماله وصحته وأولاده، لكن عندما يوقعه أحد في الخير رغم أنفه يفرح، ويقول: ليتنا نجد من يرغمنا على الخير.

يقول: (التوكل تارة يكون توكل اضطرار) يعني: قد طرقت جميع الأبواب، فتجد مثلاً الأب يقول: عرضت ابنتي على ثلاثين طبيباً وكلهم عجزوا عن علاجها، وبعد كل ذلك يقول: ربنا يتولاها برحمته، لكن بعد أن يئس من كل الأبواب المفتحة، ويذكر أنه احتضر أبو بكر فقالوا له: أنطلب لك الطبيب يا أبا بكر؟! قال: لا، إنما الطبيب قد جاء، وقال: سوف تحل عند رسولي الليلة، فالطبيب الأساسي هو الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك شعر أبو بكر أنه قد حانت وفاته، يقول الإمام الشافعي: طلبوا إلي طبيب الورى وروحي تناجي طبيب السماء طبيبان ذاك ليعطي الدوا وذاك ليجعل فيه الشفاء فترى الناس يأتونه بطبيب الأمراض، وروحه تنادي الطبيب الأول الأوحد الشافي المعافي لا إله إلا هو، فالطبيب يضع الدواء والله عز وجل يضع الشفاء في الدواء.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما إذا ضاقت عليه الأسباب، وضاقت عليه نفسه، وظن ألا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه

<<  <  ج: ص:  >  >>