ثم قال المصنف رحمه الله تعالى:[فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة، وجدت روحه خفة وراحة، فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي].
أي: عندما يجيع بدنه، ويسهره في عبادة الله، ويصبح مقترباً من الله، ومقيماً لهذا البدن في الخدمة، فالروح تجد خفة، فتبتدئ تتوق وتتشوق إلى المكان الذي أتت منه؛ لأن هذا هو موطنها، والموطن غال.
سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال: من يرتاد لي مكاناً أتنسم فيه هواء، وليكن أجمل مكان، فذهب النسر وعاد وقال له: تفضل يا نبي الله! ارتدت لك أجمل مكان، فذهب سيدنا سليمان وراء النسر، حتى وصل إلى مكان فيه شجرة يابسة وتحتها ماء راكد آسن لا يتحرك، وليس فيه هواء ولا شيء، فقال نبي الله سليمان: أهذا أجمل مكان؟ قال: نعم يا نبي الله! هذا هو المكان الذي ولدت فيه.
فكل إنسان يحن إلى المكان الذي ولد فيه، فتجد إنساناً: يقول أنا مصري، والآخر: أنا عراقي، والخ.
بل سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما هاجر يقول أبو بكر: رأيته قد اعتدل بالناقة واغرورقت عيناه بالدموع حتى ابتلت لحيته الشريفة، وقال:(يا مكة! والله إنك لتعلمين أنك أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فكانت عزيزة عليه.
وهكذا يزداد ثواب من فارق ما يحب طاعة لله سبحانه، والله وصف المزكين المؤتين، فقال:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}[البقرة:١٧٧]، فالمسألة صحيحة، لكن رغم حبه للمال ينفقه، مثل ابن عمر فقد كان يوزع على الأطفال والناس السكر، فقالوا: ما هذا يا ابن عمر؟ قال: إني أحب السكر، والله يقول:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:٩٢].
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من أطعم أخاه حلياء صرف الله عنه مرارة يوم القيامة).
فالمسلم ما دام أجاع البدن، وأسهره، وأقامه للخدمة، فتبتدئ الروح تحن للموطن الذي جاء منه، هو أتى من عالم الملكوت، فتبتدئ الروح تتنسم عبير الطاعة وتخف وترقى، فزادها ذكر الله.