[الوجهان الأول والثاني لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي]
الأول: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس، فالله تاب على أحدهما ولم يتب على الآخر؛ لأن هذا ارتكب منهياً وهذا ترك أمراً.
الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة.
يعني: أنه محتاج إلى أن يأكل؛ لأن شهوته تدعوه إلى أن يأكل، فهناك دافع يدفعه إلى ارتكاب النهي.
أما الأمر فذنب تركه مصدره في الغالب الكبر والعزة، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
ومثال ذلك في شارب الخمر، فهو مرتكب للنهي، والخمر من الكبائر، ولكنَّه يصلي، وفلان لا يصلي ولا يشرب الخمر، ففي رأي ابن القيم يكون شارب الخمر أقرب إلى الله من تارك الصلاة؛ لأن شارب الخمر لم يترب تربية جيدة، ولم يجد تربية إسلامية، ولا بيئة إيمانية، وإنما وجد مجتمعه كله يشرب فشرب، فهناك ما يدفعه لشربها.
فـ ابن القيم يقول: إن هذا الذي لا ينفذ الأمر عبارة عن إنسان متكبر، والجنة محرمة على المتكبر، فمصدر تركه الأمر في الغالب الكبر والعزة، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنا وسرق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، فقال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟! فقال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر)، فكان أبو ذر في المسجد يذهب ويجيء ويقول: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر؛ سروراً بذلك؛ لأنه لم يكن يسرق ولا يزني.
فالمذنب مبتلى بضعف العزيمة، فمن الواجب أن نعامله كمريض، والمريض لا ننهره، ولا نضربه، بل لابد من أن نقف بجانبه؛ لأنه مبتلى، والابتلاء في الدين أصعب أنواع الابتلاء، وأصعب من الابتلاء في الدين ابتلاء السلب بعد العطاء، حين يعطي الله تعالى الإنسان حلاوة نوره ثم بعد ذلك يسلبها منه، فيعتاد على درس علم ثم بعد ذلك يسلبه اعتياده.
فعلى العبد أن يداوم على الأعمال حتى وإن قلت، فمن يقول: (سبحان الله) ثلاث مرات في اليوم ويواظب عليها طيلة عمره أحسن ممن يقول ذلك ألف مرة في يوم ثم بعد ذلك يترك، ففي الحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، ولذلك روي أن سيدنا داود قال: يا رب! كم تسع كفة الميزان؟ قال: يا داود! تسع أطباق السماوات والأرض، فقال سيدنا داود: يا رب! ومن أين آتي بحسنات لكي أملأها؟! فقال: يا داود! إذا رضيت عن عبد ملأت له كفة حسناته بشق تمرة يتصدق بها مخلصاً من أجلي.
ولذلك روي عن رجل من بني إسرائيل أنه عبد الله ستين سنة، ثم جاءته إلى صومعته امرأة بغي، فوقع عليها فارتكب الفاحشة، وكان معه رغيفان، فذهب قبل أن يتوب ليغتسل، فوجد مسكيناً، فأعطى المسكين الرغيفين، ثم مات وهو يمد يده بالرغيفين، فوزنت عبادة الستين سنة بالزنية التي ارتكبها فأذهبت عبادة الستين سنة، ثم دخل الجنة بالرغيفين.
فأنت لا تعرف من أين يأتي الخير.
إن الخوف من الله عز وجل يجب أن يتعادل مع الرجاء، ولكن يجب أن يكون الخوف أكثر من الرجاء؛ لأن الرجاء لا يفيد في زمن كثرت فيه الآمال، ولأن نخاف اليوم ونأمن يوم القيامة خير لنا من أن نأمن اليوم ونخاف يوم القيامة، ففي الحديث: (لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، إن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، وإن أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة).