[آدم وتكريم الله له]
قال ابن القيم رحمه الله: [العاشرة: أنه سبحانه لما افتتح خلق هذا العالم بالقلم من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان، فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالم، ولهذا أظهر الله سبحانه فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خص به دونهم، وتأمل كيف كتب سبحانه عذر آدم قبل هبوطه إلى الأرض، ونبه الملائكة على فضله وشرفه، ونوه باسمه قبل إيجاده بقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، وتأمل كيف وسمه بالخلافة وتلك ولاية له قبل وجوده، وأقام عذره قبل الهبوط بقوله: (في الأرض)، والمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته.
يقول: هذا لم يقصده، فالأم وهي من أشد الناس حباً لولدها، لو عصاها وأراد الأب تأديبه، تشفع له وتقول: هو لا يقصد معصيتي.
ويذكر أن شاعراً عربياً أحب امرأة سوداء فسطر حبه شعراً فقال: أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب والسودان: جمع أسود.
ومن ذلك ما ذكر أن كثير عزة دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أنت كثير عزة؟ قال له: نعم، قال له: ألم تر أحداً أكثر منك عشقاً وحباً؟ قال له: نعم رأيت يا أمير المؤمنين، قال له: من؟ قال له: ذات مرة مررت بالصحراء فوجدت رجلاً مختبئاً خلف صخرة، فسألته: ما لك؟ فقال: زوجتي وأبنائي منذ ثلاثة أيام ما دخل أجوافهم طعام، فقلت له: ما العمل إذاً؟ قال: ننصب شركاً لعل غزالة أو ظبياً يقع فيها، فما لبثنا إلا يسيراً حتى وقع في الشرك ظبي عينيه مثل المها -والمها بقر الوحش، وكم أعجب وأنا أسمع الآباء يسمون بناتهم مها- فذهب إليها الرجل وفك شركها وتركها تذهب، فقلت له منكراً: لماذا أطلقتها؟ قال: إن عينيها تشبه عيني ليلى، ثم قال: أيا مثل ليلى لا تراعي فإنني لمن مثل ليلى ما حييت طليقاً والتاريخ بمثل هذه اللطائف مليء، وأعجب كثيراً عندما أجد أن القائمين على أمر التربية والتعليم لا يدرسون كل هذا التاريخ، وإنما يقع اختيارهم على أصعب ما فيه، مما يجعل الطلاب يكرهون النصوص والأدب، مثلاً في الثالث الثانوي تدرس عوامل نهوض الأدب في العصر الحديث السينما المسرح وغيرها من الأشياء التي لا تساعد على بناء جيل متشبع ناضج.
قال ابن القيم رحمه الله: [فالمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته، فلما صوره ألقاه على باب الجنة أربعين سنة] ففي الحديث (أن الله لما صور آدم من طين وضعه على باب الجنة أربعين سنة، فكان إبليس يمر عليه ويقول: لابد أن هذا قد خلق لشيء ما) يعني: هناك علة لخلق هذا.
ثم قال: [لأن دأب المحب الوقوف على باب الحبيب، رمي به في طريق ذل لم يكن شيئاً، لئلا يعجب -أي: يداخله العجب- وفي الحديث (كان إبليس يمر على جسده عليه السلام فيعجب منه، ويقول: لأمر قد خلقت، ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره، ويقول: لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك) ولم يعلم أن هلاكه على يده، فقد رأى طيناً مجموعاً فاحتقره، فلما صور الطين صورة دب فيه داء الحسد، فلما نفخ فيه الروح مات الحاسد، فلما بسط له بساط العز عرضت عليه المخلوقات فاستحضر مدعي {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} [البقرة:٣٠] يعني الملائكة في قولهم: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة:٣٠] إلى حاكم {أَنْبِئُونِي} [البقرة:٣١]].
أي: أن هناك قاضياً يجلس في مجلس القضاء وهناك مدع أتى بدعواه وهي: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:٣٠]، إلى حاكم {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة:٣١]، والمعنى: لماذا تخلق ونحن نعبدك؟ فكان الرد: قولوا لي هذه أسماء ماذا إذاً؟ [وقد أخفى الوكيل عنه بينة {وَعَلَّمَ} [البقرة:٣١]، أي: {آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:٣١]، فالمدعي وهم الملائكة لم يروا أمر التعليم من الله لآدم.
ولذلك ادعوا، ولو عرفوا أن الله علمه، ما كانوا سيدعون، ولذلك من رحمة الله بآدم أن لقنه الحجة وعلمه إياها [فنكسوا رءوس الدعاوى على صدور الإقرار، فقام منادي التفضيل في أندية الملائكة ينادي: اسجدوا، فتطهروا من حديث دعوى ((ونحن)) بماء العذر في آنية {لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة:٣٢]، فسجدوا على طهارة التسليم، وقام إبليس ناحية لم يسجد؛ لأنه خبث، وقد تلوث بنجاسة الاعتراض، وما كانت نجاسته تتلافى بالتطهير؛ لأنها عينية، فلما تم كمال آدم قيل: لابد من خال جمال على وجه {اسْجُدُوا} [البقرة:٣٤].
فجرى القدر بالذنب؛ ليتبين أثر العبودية في الذل.
يا آدم! لو عفا لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون: كيف فضل ذو شره لم يصبر على شجرة] أي: لو أن الله سامحك وعفا عنك لقيل: مخلوق لم يستطع أن يصبر حين قلت له: لا تأكل، فأكل، فالله يريد أن يبين العز في أن آدم يعصي ثم يرجع فيقبل الله توبته، وفي الحديث: (يا ابن آدم! لو جئتني بقراب الأرض ذنوباً وجئتني لا تشرك بي شيئاً جئتك بقرابها مغفرة).
ثم يقول: [لولا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس ولا نزلت رسائل: (هل من سائل)].
يريد بالرسائل ما جاء في الحديث: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يكون ثلث الليل الآخر فينادي: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له) [ولا فاحت روائح (ولخلوف فم الصائم أحب إلى الله من ريح المسك)]، أي: لولا ما حصل من أبينا آدم، لم يكن هذا العز كله قد ظهر لنا، فتبين حينئذ أن ذلك التناول لم يكن عن شره، [يا آدم! ضحكك في الجنة لك وبكاؤك في دار التكليف لنا] أي: أنت عندما تضحك فالضحك لك، لكن عندما تبكي فبكاؤك لنا؛ لأنه يكون لك في ميزان الحسنات [ما ضر من كسره عزي إذا جبره فضلي] فمن كسره عز الله وجبره فضل الله ما ضره شيء.
[إنما تليق خلعة العز ببدن الانكسار، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي] فالله وهو الرب تعالى يقول: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي [مازالت تلك الأكلة تعاوده حتى استولى داؤه على أولاده] أي أن كل واحد يريد أن يرتكب المحرم كما صنع أبوهم، [فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:١٢٣]] أي: لما حصل المرض بعث لهم الدواء على يد الخبير {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:١٢٣] [فحماهم الطبيب بالمناهي، وحفظ القوة بالأوامر، واستفرغ أخلاطهم الرديئة بالتوبة فجاءت العافية من كل ناحية].
اللهم عافنا فيمن عافيت يا رب.
[فيا من ضيع القوة -الإيمانية- ولم يحفظها، وخلط في مرضه وما احتمى] أي: تناوشته الأمراض كمن أصيب بالفشل الكلوي، ومرض الكبد، والرئة والقلب وغيرها -والأمراض هي الذنوب، فالمعنى: لا ينظر للحرام فقط، بل يسمع الخبيث، ويقول الخبيث، ويذهب إلى أماكن الخباثة، بل هتك الأستار كلها.
[وما احتمى ولا صبر على مرارة الاستفراغ، لا تنكر قرب الهلاك، فالداء مترام إلى الفساد، لو ساعد القدر فأعنت الطبيب على نفسك بالحمية من شهوة خسيسة ظفرت بأنواع اللذات وأصناف المشتهيات، ولكن بخار الشهوة غطى عين البصيرة، فظننت أن الحزم بيع الوعد بالنقد] أي فكرت أن النقد الذي هو الحاضر أنفع من الوعد الذي هو التأخير، فكأن النقد الدنيا والوعد الآخرة، فيا خسارة من باع الآخرة بالدنيا.
[يا لها من بصيرة عمياء جزعت من صبر ساعة، واحتملت ذل الأبد، سافرت في طلب الدنيا وهي عنها زائلة، وقعدت عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلة، إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير، فاعلم بأنه سفيه].