[الفرح والأنس بالله تعالى]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله].
لا بد أن تفرح بالله عز وجل؛ لأنه رزقك الإسلام؛ ولأنه لا توجد نعمة أكبر من نعمة الإسلام، وهذه نعمة لم نحافظ عليها حق الحفاظ، فهي نعمة لا تساويها نعمة، فالمال يأتي ويذهب، والجاه يأتي ويذهب، وأي شيء في الدنيا يضيع إلا الإيمان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من أحب) فالله لا يعطي الدين إلا للذي يحبه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وليس معنى (يفقهه في الدين) أن يجعله عالماً وشيخاً كبيراً، ولكن التفقه في الدين هو أن يعرف المسلم ما الذي ينجيه والذي لا ينجيه؟ وأن يعرف المسلك الذي يوصله إلى الجنة، والمسلك الذي يهبط به إلى قعر النار والعياذ بالله.
فالمسلم لا بد أن يضع نصب عينيه ما الذي ينجيه وما الذي يضيعه، فإذا عرف هذا، فإن الله اختار له الخير.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا أنسوا بأحبابهم، فاجعل أنسك بالله].
مثلما تفرح بالجلسة مع الأحباب وتأنس بالجلوس معهم، فليكن أنسك بالله عز وجل، قال أهل العلم: إن الله اطلع على قلوب العباد، فوجد أشوق القلوب إليه قلب رسول الله صلى الله عليه سلم، فلم ينتظر إلى يوم القيامة لكي يريه وجهه، وإنما عجل له برحلة المعراج لكي يتشرف الحبيب برؤية الله عز وجل، لأنه اطلع على قلبه فوجده قلباً تواقاً، فجعله يرى المعبود الذي يعبده، فأكرمه الله.
وسيدنا موسى عليه السلام طلب رؤية الله عز وجل، ولكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب رؤية الله عز وجل، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:١٤٣]، والله تعالى يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤].
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يطلب أن يرى وجه ربه، ومؤكد أنه كان يتمنى ذلك، ولذلك قالوا: سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، أي: أن الذي يخطط ويفكر ويتوقع ويعمل دراسة جدوى لمشروع يريد أن يقوم به، ولكن الله يريد شيئاً آخر، فلا يحصل إلا ما أراده الله وليس ما خططه هذا العبد؛ لأن القدر له أسوار عالية لا يستطيع أحد أن يخترقها إلا بإذن الله وبقضائه وقدره.
ولذلك سألوا سيدنا عمر عندما حصل الطاعون في الشام، قالوا: هل ندخل أم لا ندخل؟ فلم يجبهم عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون في بلد وأنتم خارجها فلا تدخلوها، وإن كنتم داخلها فلا تخرجوا منها)، فاتضحت الصورة لسيدنا عمر، فقال: فلنرجع، فقال له بعضهم: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
فلا منجى من الله إلا إليه.
ويجب أن يكون إيماننا في حالة من الازدياد، ولا يزداد الإيمان إلا بالتسليم الكامل لله عز وجل.
وأضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً جلس في بيته لمدة ساعة، وسمع عشر مكالمات تلفونية، وفي كل مكالمة مشكلة مختلفة عن الأخرى تماماً، فهذه مشكلة كبيرة وهذه مشكلة صغيرة وهكذا ولله في خلقه شئون، كيف يوزع كل هذه الأشياء؟ ورجل يقول لي: هل أنت ربنا؟ فأقول له: استغفر الله! أنا لست رباً، فيقول: أنت لن تحاسبني، فأقول له: ولماذا أحاسبك؟ فيقول: زوجتي للأسف تحضر محاضراتك في المسجد، فقلت له: ولماذا تقول للأسف؟ فقال: لقد ضيقت علي حياتي، فكلما تسمع كلمات منك تأتي وتريد أن تطبقها علي، وأنا لا أعرف الصلاة والصوم، فقلت له: وأنت أتيت إلي لكي تتشاجر معي أو تستوضح مني أو ماذا؟ وقال لي: وأنا أيضاً أحب الجلسات اللطيفة وأريد أن أشرب كأساً من الخمر أو كأسين كل يوم، فقلت له: يكفي أنك رجل تحب الله ورسوله، فقال لي: من أين عرفت هذا؟ فقلت له: الذي يقول هذا الكلام الصريح لا يخاف من أحد ولا يخاف إلا من الله، وطالما أنك غير خائف مني فهذا دليل على أنك خائف من الله، فأخرج ورقة وقلماً من جيبه وسألني عن مواعيد محاضراتي في المسجد.
وأقسم بالله أن هذا الرجل في كل جمعة أراه في أول عمود في المسجد، ولا أحد يصل إلى أول العمود يوم الجمعة إلا الذي يأتي مبكراً في الساعة التاسعة صباحاً، لأنه في الساعة العاشرة لا تجد مكاناً داخل المسجد.
فلو قلت له: دع زوجتك وشأنها، وتشاجرت معه، ربما نفر أكثر.
أنت أحياناً تضطرك الظروف ليس لدرجة أنك تنافق الناس، ولكن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لطيفة وعظيمة، والله لو كانت دعوة سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم مثل بعض الأخوات المنقبات اللاتي يهاجمن النساء في كل مكان، لتوقفت الدعوة، تجد الواحدة من هؤلاء بمجرد أن ترى فتاة في الشارع وهي غير محجبة، فتسحبها من شعرها، وتقول: لابد أن تحتجب، وإن كانت هذه الفتاة تلبس قصيراً، ولكن هؤلاء لا يركزن إلا على النقاب، فلا بد من أسلوب في هذه المسائل.
فالدعوة تحتاج إلى صبر وانشراح صدر، وتحمل في الله عز وجل.
ولكن للأسف تجد بعض الشباب والشابات يأخذون بنصوص الأحاديث أو بمجرد أن يسمعوا محاضرة في مسجد أو من أي شيخ، فيعودون إلى بيوتهم ويخاطبون آباءهم بطريقة غير مؤدبة، فيقولون لهم: لقد سمعنا اليوم شيخاً يتكلم عن النار وعذاب النار والمنافقين وصفات المنافقين، وأنتم لا تصلون الفجر ولا العشاء، فأنتم منافقون وستدخلون النار ولن تدخلوا الجنة.
ولكن لماذا لا نتعلم من سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عندما قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:٤٣ - ٤٤]، وأبوه يقول له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:٤٦]، ولو أن أحداً في زماننا يقول لولده هكذا، لرد عليه ابنه وقال: والله لن تقدر! ولكن سيدنا إبراهيم لم يقل له هكذا، وإنما قال له: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:٤٧]، وهذا كما في قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣]، فإذا كان المريض ليس عليه حرج، والذي غاب عنه عقله ليس عليه حرج، فما بالك بشخص غائب عنه الإيمان! فإن مشكلته كبيرة، فهو مثل الذي عندهم أمراض عقلية -ربنا يشفي كل مريض- ويقولون لبعضهم: نحن محتجزون هنا بعيداً عن الناس لكي لا نصاب بالجنون، والناس ينظرون إليهم أنهم مجانين، وهذا بالضبط ما يحصل -مع فارق القياس- فعندما يراكم بعض الناس تدخلون المساجد، فإنهم ينظرون إليكم نفس النظرة، ويقولون: الدين ذهب بعقلهم، وهناك رجل يضحك عليهم يذهبون إليه كل يوم أربعاء، والأغرب من هذا أن بعضهم يقول: هذا هو الذي خرب علينا بلادنا.
سبحان الله!! فالمسلم ينظر إلى هذه الفئات من الناس ولا يتهمها، لأنهم مرضى، وهناك مثل يقول: من ذاق عرف، فلو ذاق أحد طعم الإيمان سيعرفه، فإنه شيء يحس ولا يقال، فمثلاً لو سألك رجل: كم تحب ولدك؟ فهذا ليس سؤالاً؛ لأن كل شخص يحب ابنه، ولا يستطيع أن يصف حبه لابنه، فهذا شيء يحس ولا يقال، وهكذا الإيمان عندما يتشرب في القلوب فتجد صاحبه ينظر للناس نظرة رحمة، حتى العاصي فإنه ينظر له نظرة رحمة، لأنه لو تاب سيكون أحسن مني ومنك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: (عاشروا التوابين فإنهم أرق أفئدة).
ورجل آخر قبل سنوات أتى ودق باب بيتي وهو كبير في السن، فقلت له: تفضل ادخل، فقال لي: أنا أتيت لأسأل سؤالاً من الباب، فقلت له: تفضل واسأل بالداخل، فلم يقبل، فقلت له: تفضل واسأل، فقال: هل يغفر ربنا جميع الذنوب؟! قلت له: نعم، الله يغفر الذنوب جميعاً بفضله ورحمته، وربما أن الله سيرحم محافظة الجيزة لأجلك، فقال لي: لماذا؟! وفاضت عيناه بالدموع، فقلت له: عندما يبلغ عمر العبد ستين سنة يقول الله: خففوا عن عبدي الحساب، وعندما يبلغ سبعين سنة يقول: هذا أسيري في الأرض، وعندما يبلغ ثمانين سنة يقول: لا تكتبوا على عبدي سيئة حتى آخذه عندي.
فكلما تقدم العبد في السن كلما خفف الله عنه، لأن الله يسلب منه الصحة والذاكرة، وتجده يذكر شيئاً وينسى شيئاً، وبعدما كان يذهب هنا وهناك، بدأ يجلس في بيته وأصبحت حياته محدودة، فهذه تشمله رحمة الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الإنسان.
وأبو ذر رضي الله عنه كان قاطع طريق، لأنه كان من قبيلة غفار، وقبيلة غفار أكبر قطاع طرق في جزيرة العرب، فلما أسلم ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه تبسم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أبو ذر: إن الله يهدي من يشاء، فعندما يشاء الله أن يهدي إنساناً فهو يهديه فيمن هدى.
والأنس بالله من جربه عرفه، فالذي دنياه لله عز وجل، وكل حركة لله، من صلاة ودرس العلم، وقراءة وصلة الرحم، وبرنامج حياته كله لا يتحرك إلا لله، فيصبح عنده أنس بالله عز وجل، وما دام عنده أنس، فعنده طمأنينة، وما دام عنده طمأنينة فيكون عنده رضا، ومادام عنده رضا فهو في الجنة قبل أن يدخل الجنة.