للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عاقبة صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم]

يقول رحمه الله: ألقى بذر الصبر في مزرعة: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) فإذا أغصان النبات تهتز بخزامى: والحرمات قصاص.

والخزامى عبارة عن نباتات في جزيرة العرب لها رائحة طيبة.

إذاً: والحرمات قصاص، فدخل مكة دخولاً ما دخله أحد قبله ولا بعده، دخلها وحوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، أي: أعينهم، وهذا دليل على أنهم كانوا متغطين بالأسلحة والدروع، فدخلوا مكة منتصرين بفضل الله بعد أن خرجوا منها مقهورين.

وكان الصحابة على مراتبهم، والملائكة فوق رءوسهم، وجبريل يتردد بينه وبين ربه، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه.

فربنا أباح مكة لسيدنا الحبيب ساعة، ولم يبحها لأحد من بعده فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن مكة بعد ذلك حرام، فلا أحد يستطيع أن يدخلها، فالبيت له رب يحميه، ولو أن المسلمين كلهم لم يستطيعوا أن يدافعوا عن البيت الحرام فإن ربنا سيدافع عنه؛ لأن هناك ملائكة تطوف ليل نهار تحرس البيت الحرام.

يقول: فلما قايس بين هذا اليوم -الذي هو يوم فتح مكة- وبين يوم: ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ)) يوم اجتمعوا ليروا ما يعملونه به، فأنزل تعالى قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠].

والمكر من العبد صفة غير جيدة، فمكر العبد لف ودوران؛ لأنك عندما تمكر تلف وتدور، ولكن المكر من الرب تدبير وإحاطة.

ويعني بذلك قياس يوم خروجه من مكة بيوم دخولها، وشتان بين اليومين، فدائماً ينصر الله الرسل، وفي البدايات تكون القوى العامة هي الغالبة، والعبرة بالنهاية.

فسيدنا موسى خرج من مصر كما قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:٢١]، وعندما عاد دخل على فرعون وقال له: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:٤٦ - ٤٧]، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:٤٧] وكل ذلك كلام قوي.

وهكذا الحبيب المصطفى خرج من مكة؛ لأن الله أذن له بالهجرة؛ لأنها ليست مكاناً للدعوة، وذهب إلى المدينة ورجع بعد ثمان سنوات منتصراً فاتحاً ولحيته تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>