للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مثال قلب المؤمن]

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتاً وهو: القلب، ووضع في صدره عرشاً لمعرفته، يستوي عليه المثل الأعلى، فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه، والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستوٍ على سرير القلب، وعلى السرير بساط من الرضا، ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه باباً من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة، من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة؛ فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبر كلامه وقرآنه وفهمه والعمل بوصاياه، وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده؛ فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار].

قوله: (ووضع في صدره عرشاً) أي: صدر العبد، والصدر معناه الواجهة، مثل واجهة البيت، والعرب تسمي (الغرفة) التي لا يدخلها إلا الضيوف، وهذه الغرفة هي أجمل ما في البيت، ولذا يقول تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥]، وهذه الغرفة يمشي فيها المؤمن ألفي سنة.

وقوله: (يستوي عليه المثل الأعلى) معنى: (المثل الأعلى) أي: المثل والمبادئ العليا، أي: الدين والإسلام، وليس هناك ما هو أعلى منها.

وقوله: (وعلى السرير بساط من الرضا) أي: فراش السرير هو الرضا، فيكون الإنسان راضياً، وعندما يكون قلبك ممتلئاً بالرضا، فأنت تعيش في الجنة لكن في الدنيا.

وقوله: (ووضع عن يمينه وشماله مرافق).

فليس من المعقول أن يكون البيت والعرش من غير مرافق.

وقوله: (مرافق شرائعه وأوامره) أي: لكي يكون على الطريق الصحيح، بهذه الأوامر والنواهي.

وقوله: (وفتح إليه باباً من جنة رحمته).

أي: جعله رحيماً بالناس، وشفوقاً وحنوناً بهم.

وقوله: (وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين، والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس).

أي: لابد عند نزول مطر من كلامه عز وجل، أن تثمر الشجرة خيراً.

وقوله: (وجعل في وسط البستان شجرة معرفة).

مثلما قال سيدنا علي: غرس الزهد بقلبي شجره ثم نقى بعد جهد حجره وسقاها إثر ما أودعها كبد الأرض بدمع فجره وإذا ما أبصر طيراً مفسداً حائماً حول حماها زجره نمت في ظل ظليل تحتها روح القلب ونحى ضجره ثم بايعت إلهي تحتها بيعة الرضوان تحت الشجره فإذا كانت هذه بلاغة سيدنا علي، فكيف ببلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقوله: (وعلق في ذلك البيت قنديلاً).

وهو القلب الجميل، اللهم اجعل قلوبنا من هذه القلوب يا رب.

وقوله: (أسرجه) يعني: أضاءه.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم أحاط عليه حائطاً، يمنعه من دخول الآفات والمفسدين].

أي: سوراً لهذا العرش، يمنع الشيطان من أن يدخل.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن يؤذي البستان فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرساً من الملائكة يحفظونه من أمر الله في يقظته ومنامه].

وهذا من كرم الله سبحانه، أي: أن يبعث له ملائكة يخدمونه.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه].

فإذا كان الساكن داخل هذا البيت هو الله بأوامره ونواهيه، فالعبد يكون كأن الله في قلبه.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهو دائماً همه إصلاح السكن].

عندما يزورنا مسئول في البيت، فسنمنع الإزعاج في البيت، وضجة الأولاد، ولابد أن يكون كل شيء جاهزاً ومرتباً، فتقوم معه بواجب الضيافة كما ينبغي، فكذلك عندما يكون الله في قلب العبد ينبغي أن يجعله لائقاً بساكنه، ويعرف دائماً أن الله في قلبه.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلاً].

مثل المسؤول إذا أتى إلى منزل أحدنا ووجده غير مرتب ونظيف، فسيخرج على الفور.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه خشية انتقال الساكن منه].

أي: صاحب البيت الذي هو العبد، يبادر إلى إصلاح قلبه.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فنعم الساكن، ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين].

<<  <  ج: ص:  >  >>