[أهمية العمل للآخرة]
قال ابن القيم رحمه الله: [الجسد سبعة: الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج]، أي: أن الروح في الجسم مثل الطير في البرج أو في القفص.
[وما أعد للاستفراخ ليس كمن هيئ للسباق] فالتي نحضرها من أجل أن تلد، غير التي نحضرها من أجل غرض آخر، فالحمام الزاجل الذي ينقل الرسائل يختلف عن الحمام الذي يبيض ويفقس البيض فقط، فهذا الصنف للتجارة وللبيض وللفرخ، لكن الأول مهيأ لشيء أفضل، ومثل ذلك أيضاً: الأولاد في الفصل، يصل عددهم إلى أربعين طالباً، ولا يؤخذ منهم لأوائل الطلبة إلا طالب واحد لنضعه في فصل المتفوقين مع أن هناك الكثير من الناجحين لكن ما أعد للتفوق غير ما أعد للنجاح، فمن يجهز للتدريس غير الذي يجهز ليمسك أزمة الأمور في الدولة، والحال [من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله] فلو أن لك ولدين فأنت تدرك ميزات أحدهما عن الآخر، فلا يعد من الغريب أن تبعث أحدهما كل يوم ليأتي بالعيش من الفرن، فأنت تعلم أنه أجلد من أخيه، قادر على الوقوف في الطابور، مستعد لأي صراع أو شجار يحدث، وليس من الغريب أن تبعث الآخر إلى المناسبات العامة، فأنت تدرك لطفه في التعامل، وكياسته في ذلك.
ومراد ابن القيم رحمه الله من هذا أن الله حين يستخدمك في أمر الدنيا تصبح عنده لا تساوي شيئاً؛ لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه حين يستخدمك في أمر الآخرة فأنت كريم عند الله يريد إكرامك بما فيها من النعيم.
اللهم استخدمنا في أمر الآخرة.
سأل أحدهم الحسن البصري: ما مكانتي عند الله؟ فقال له: اعرف مكانة الله عندك تعرف مكانتك عند الله.
أي: إذا كان الله عندك كل شيء فأنت عند الله كل شيء، إذا كان الله عندك من الأشياء التي لا تتذكرها إلا نادراً فأنت عند الله لا شيء.
ثم يؤكد ابن القيم رحمه الله على أهمية العمل للآخرة فيقول: [كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم] فالحال أنهما اثنتان لا ثالث لهما: الدنيا والآخرة فمن كان من أبناء الدنيا فهو تبع لها، ومن كان من أبناء الآخرة فهو تبع لها، ثم يبين حقارة الدنيا فيقول: [الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها؟]، فالدنيا لحقارتها لا تستحق أن تأتي إليها، فكيف تلهث وتجري وراءها، [فالدنيا جيفة والأسد لا يقع على الجيف] وإنما يقع على الجيف الكلب، ويذكر أن سيدنا علياً كان يمشي مع بعض الصحابة، فوجد ستة كلاب قد اجتمعت على جيفة من الجيف، فقال: هذه هي الدنيا وطلابها كلاب فمن أراد أن يحب الدنيا فليكن كلباً من هذه الكلاب.
والحق أنه وبسبب الدنيا أخوض في عرض أخي المسلم، وأخوض في ماله، وآخذ حقه، فالدنيا مبنية على الصفات الكلبية، لكن الأسد لا يأتي إلى الجيفة، بل إن الأسد حين يأتي ليشرب من البئر لو شم رائحة كلب شرب منه لرفض أن يشرب.
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتمتنع الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه وابن القيم رحمه الله يقول لك: أنت أسد والدينا جيفة لا ترد عليها إلا الكلاب، فاربأ بنفسك عنها.
ثم يقول: [الدنيا مجاز -أي: ممر أو مجاز غير حقيقة- والآخرة وطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان] الأوطار: جمع وطر، والوطر هو الحاجات، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب:٣٧].
فلو أنك سافرت مع ابنك فقال لك الابن: أنا أريد منزلاً، أو أريد قصراً، فأنت ستجيبه: إذا رجعنا من سفرنا اشترينا لك ما تريد فالأوطار تطلب في الأوطان، والذي يريد أن يتنعم، يتنعم في الوطن الأساسي له، وهو الجنة، أما سكنت في الدنيا في بيت واسع جداً، أو قصر منيف، فما يلبث أن يخرب القصر ولو بعد حين، ولابد أن يموت صاحبه ولو بعد حين، أما في الآخرة فينادي: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، فيزداد أهل الجنة سعادة، ويزداد والعياذ بالله أهل النار شقاء.