للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دوران العبد بين رؤية عدل الله ورؤية فضله]

إن كل واحد منا يرى أنه المظلوم، وأنه هو المسلم الوحيد، وأنه على الطريق الصحيح، ولكن لن يستطيع الإنسان أبداً أن يضحك على نفسه دائماً، كما قال أحد الحكماء: إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وتستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، ولكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت.

وكذلك لا تستطيع أن تخدع نفسك التي بين جنبيك في بعض الوقت؛ لأنك صادق مع نفسك، حتى وإن قبلت الكذبة ثم صدقتها، فإنك سوف تفيق يوماً، وتعود إلى نفسك يوماً فتوقن بأنك قد فرطت في جنب الله، فتقر لله عز وجل بأنك جاهل في علمك، وأنك مفرط، وأن عملك مليء بالآفات، وأن نفسك مليئة بالعيوب، وأنك ظالم في معاملة الله عز وجل، فإن أخذك بالذنوب رأيت عدله، وإن لم يؤاخذك بها رأيت فضله، وهناك فرق بين عفو الله عن العبد وبين الاستدراج.

فالاستدراج معناه: أن عبداً من العباد مقصر في جنب الله، ومع تقصيره ينصب عليه الخير ليل نهار، فهذا استدراج، فالله تعالى يقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:٤٤ - ٤٥]، والعياذ بالله رب العالمين.

إذاً: إذا رأيت العبد مقيماً على المعاصي والخير ينصب عليه فاعلم أنه مستدرج.

فالعبد الصالح إن آخذه الله بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فيقول: من فضل الله علي أنه وفقني لصلاة الجماعة، ومن فضل الله علي أنني تصدقت، ومن فضل الله علي أنني وصلت الرحم، ومن فضل الله علي أنني صمت الإثنين والخميس.

وهكذا يرى فضل الله عز وجل في كل طاعة من الطاعات، وهذه هي المنة الأولى.

المنة الثانية: أنه تقبلها منه، وفي الحديث: (إن الله ليقبل صدقة أحدكم بيمينه، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه).

فالله تعالى إذا قبل طاعتي كان ذلك منه منة علي، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يتقرب به إلى الله، وذلك أن على أبواب السماوات ملائكة، فعلى باب كل سماء ملك من الملائكة، فحين يصعد عمل العبد يقول الملك الأول: إن صاحب هذا العمل مغتاب، والله أمرني بألا يمر عمل من عندي صاحبه مغتاب، وعند باب السماء الثانية يقول الملك: أنا الملك الموكل بالنميمة، وصاحب هذا العمل نمام، وفي السماء الثالثة ملك، فيقول: أنا الملك الموكل بالحقد، وصاحب هذا العمل حقود، وفي السماء الرابعة يقول الملك: أنا الملك الموكل بالحسد، وصاحب هذا العمل حسود، وهكذا إلى السماء السابقة، فيقول حملة العرش: ردوا عليه عمله، فالله لا يقبل عمل مغتاب، ولا نمام، ولا حقود، ولا حسود، ولا آكل أموال اليتامى، ولا مقامر، ولا عاق والديه.

وقد يكون في عمله جزء ليس لله، والله سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن أشرك في عمل مع الله غيره تركه الله وشركه.

ولذا يرى العبد نفسه مقصراً، فإن قبل الله عمله كان ذلك بمحض جوده وإحسانه، فلا يرى ربه إلا محسناً، ولا يرى نفسه إلا مسيئاً.

نسأل الله سبحانه أن تكون جنة أبداً إن ربنا على ما يشاء قدير، فاللهم تقبلنا في عبادك الصالحين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً، نقول جميعاً: تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، ورجعنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا عزماً أكيداً على أننا لا نعود لمثل هذا أبداً، وبرئنا من كل دين مخالف لدين الإسلام، والله على ما نقول وكيل.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>